"متأخّرًا عن العالم مسافة عشر دقائق" لرأفت حكمت: مجموعة قصصيّة مكتوبة بوعي إنسانيّ مرهف
تحتوي مجموعة رأفت حكمت القصصيّة تحت عنوان "متأخّرًا عن العالم م"متأخّرًا عن العالم مسافة عشر دقائق" لرأفت حكمت: مجموعة قصصيّة مكتوبة بوعي إنسانيّ مرهف
تحتوي مجموعة رأفت حكمت القصصيّة تحت عنوان "متأخّرًا عن العالم مسافة عشر دقائق" على مكوّنات سرديّة متواترة تمنح العمل خصوصيّة شديدة. ليس فقط على صعيد الأفكار المطروحة، ولكن على صعيد اللغة أيضًا. المجموعة مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء بين توطئة، وعشر أصابع مفقودة وهي بين هُم. والتقسيم هنا لم يكن تقسيمًا جماليًّا لتجزئة العمل، لكنّ كفاءة الطرح كانت تتأرجح بدورها بين تلك الأقسام الثلاثة، لتبدأ متماسكة عميقة، وتنتهي متفكفكة مملّة وغير مفهومة. في غالبيّة القصص الأولى كانت الفكرة لا تتوضّح إلّا في الجملة الأخيرة من كلّ قصّة. فمثلًا يختم القصّة الأولى بقوله: "فعلتُ في أقلّ من ساعتين كلّ شيء أرغب في تحقيقه خلال حياتي القادمة"، ليتّبع في ذلك أسلوب الصدام بين القارئ والنصّ، إذ لا تدرك وأنت تقرأ ماذا يريد الكاتب قوله حتّى تصل إلى الفقرة الأخيرة من القصّة. قُصر القصص خدم هذه التقنية بكلّ تأكيد، فكانت القصص لا تتجاوز في مجملها الثلاث صفحات من القطع المتوسّط، فلا يتخلّى القارئ عن صبره في معرفة المقصد من القصّة حتّى يجد نفسه قبالة الجملة الخاتمة والتي تحمل الفحوى. أحببت مجمل القصص في الجزء الأوّل من المجموعة. كانت عميقة وهادفة ومكتوبة بلغة المقموعين، وخصوصًا قصّة "بقعة دم في الذاكرة"، والتي أعدتها لعدّة مرّات لأستلذّ بها، رغم أنّها موجعة. أمّا "وجه البحّار القديم"، فلها ذكرى عندي... إذ سرد لي رأفت حكمت عندما استضفته في بودكاست نادي صنّاع الحرف حكاية لجوئه إلى لبنان وكيف تحوّل حلم رؤية بيروت إلى كابوس إذ اعتُقل فور وصوله الأراضي اللبنانيّة، فكانت المرّة الأولى التي رأى فيها بيروت من شبّاك القفص! وجود هذه التجربة الشخصيّة في العمل، وإن لم يقلها صراحةً داخل الكتاب، كانت ممتازة وأضافت طابعًا حميميًّا حزينًا للقراءة. في هذا الفصل تبأّر الحكي عن هؤلاء المهمّشين في الحياة، هؤلاء الذين ينتمون إلى الهامش الاجتماعي بسبب السنّ أو الحالة الاجتماعيّة. كانت قراءة الحكايا هنا ممتعة وتحديدًا تلك المشفّرة منها كقصّة حرق السجّادة. هذا الفصل تناول تحديدًا المجتمع الذي تشظّيه فروقات بشريّة مرعبة لا إنسانويّة. القسم الثاني من المجموعة كان الأعمق والأقوى، فاستخدم حكمت أسلوب التشخيص القصصي، وهو تحويل الجماد إلى شخصيّة، فهنا يحاكي الكاتب الشجرة، وقطعة الفحم، واللعبة، والمنديل إلى شخوص من جسد وروح. وهذه التقنية من أصعب تقنيات السرد الأدبي، سواءً على صعيد القصّة أو الرواية أو حتّى الشعر. نجح الكاتب بنقل الحياة للأشياء التي حاكاها، وانتقل من مرحلة أيصال الفكرة، إلى خلقها ونفخ الروح فيها، فجسّد الصامت صوتًا، والهامد حركةً، والأعمى بصرًا وبصيرةً، ليخلق كوكبة من الشخوص الناطقة رغم موتها. كان على المجموعة أن تنتهي هنا، أي في الصفحة 77. إذ أتاني الفصل الثالث والأخير ضعيفًا على كلّ الأصعدة، لغةً وطرحًا وفكرةً. فلسفة مملّة وغير مفهومة وأفكار تتدحرج من دون مغزى، أو على الأقل هذا ما شعرتُ به. حاول الكاتب أن يكتب بماورائيّة أو بطريقة السرد الانطباعي أو ربّما الواقعيّة السحريّة التي شخصيًّا لم أستسغها يومًا. إيجابيّات العمل كثيرة، وتحديدًا للفصلين الأوّل والثاني، إذ كانت الأفكار عميقة، غير مطروقة، فصول قصيرة ساخرة، تقنيات سرديّة ممتازة بين التكثيف القصصي، التشخيص، والسرد البؤري في فضاء فيه الكثير من النقد اللاذع للذات البشريّة. وكما للعمل حسنات، كان له من الكبوات نصيب. فتشعر فور انتقالك للفصل الثالث بتضعضع اللغة، تشتّت الأفكار، سرعة الطرح، ضبابيّة السرد كأنّ الكاتب يريد إدخال القارئ في متاهة لإقناعه بعمق الأفكار، لذلك شعرت أنّ الفصل الأخير أضعف العمل كثيرًا. ناهيك على أنّ الفصل الثالث غير مناسب لأن يُدمج بمجموعة قصصيّة وهو في واقع الحال بعيد كلّ البعد عن القصّة، فهو مجرد خواطر عابرة وقصيرة جدًّا. هذا الفصل أوقع الكاتب في مأزق ابسيتيمولوجي، أي فائض الحكي غير الضروري والتجريد المبالغ فيه على حساب الفكرة والمعنى والاتّساق مع النوع الأدبي الذي قرّر الكاتب تبويب عمله تحته. أخيرًا يمكنني القول إنّ هذه المجموعة تأرجحت بين الممتاز والعادي والضعيف. بين قصّ شخصي أو قصّ التجربة، وآخر نظري أو تجريبي. لغويًّا يوجد الكثير من الأخطاء النحويّة والإملائيّة والتنقيطيّة في العمل. بداية جيّدة لكاتب موهوب أتمنّى أن أقرأ له الأفضل في المستقبل.
ملاحظة: ناقشنا الرواية في نادي صنّاع الحرف بحضور الكاتب
رواية "نيران وادي عيزر" لمحمّد ساري: سيمفونيّة النضال تعزفها أوتار الحرّيّة
يختلف الكثير في تصنملاحظة: ناقشنا الرواية في نادي صنّاع الحرف بحضور الكاتب
رواية "نيران وادي عيزر" لمحمّد ساري: سيمفونيّة النضال تعزفها أوتار الحرّيّة
يختلف الكثير في تصنيف بعض الروايات، فيتساءل الناقد أو القارئ أهي رواية فعلًا؟ أم سيرة ذاتيّة؟ أم ربّما سيرة غيريّة؟ لكنّ الأمر مختلفٌ بعض الشيء في رواية "نيران وادي عيزر" للكاتب والمترجم الجزائري "محمّد ساري � 1958" والصادرة عن دار العين للنشر � مصر في العام 2022. يُفصح ساري ومنذ الصفحة الأولى عن طبيعة روايته، إذ يقول إنّها رواية سيرة � قصّة حقيقيّة. لكن يبقى السؤال قائمًا هنا قبل الشروع بقراءة العمل، أهي سيرة الكاتب الشخصيّة؟ أم سيرة غيريّة لأحدهم؟ مع الفصول الأولى تتكشّف حقيقة ما قصد الكاتب بعبارة "رواية سيرة"، إذ يجمع العمل بين السيرة الذاتيّة � أي سيرة محمّد ساري نفسه، وسيرتين غيريّتين � سيرة والده ووالدته. الملفت في الشقّ الخاص بسيرة الكاتب إنّ الرواية تنتهي تقريبًا بإعلان استقلال الجزائر من الاحتلال الفرنسي في العام 1962، أي أنّ الكاتب كان ما يزال في مرحلة الطفولة، وهنا ندرك أنّ أحداث الرواية تقع في فترة زمنيّة حتّى قبل ولادة محمّد ساري، الكاتب وبطل القصّة في آن، فالرواية تعتمد على سرد الأحداث الرئيسة عن لسان من عايشها، وبشكلٍ أساس عن لسان الأمّ والأب، من زاويتين مختلفتين. يضعنا العنوان مباشرةً قبالة عتبة النصّ الأولى، وهي الحرب المكانيّة، إذ احتوى العنوان على عنصر مكاني ثابت � وادي عيزر، وعنصر متحرّك قابل للتأويل وهو كلمة "نيران"، بصيغة الجمع، ليأتي العنوان محتقنًا بالكثير من الافتراضات عن ماهيّة العمل. وبالنظر سريعًا إلى الغلاف، نلاحظ تقاطعه بالعنوان، إذ تتوسّط الغلاف خارطة وصورة للكاتب في مراهقته. العتبة الثانية للنصّ كانت الأهداء والمرتبط ارتباطًا وثيقًا بكون الرواية هي سيرة لحياة الكاتب ووالديه، وبصورة أوسع سيرة وادي عيزر في تلك المرحلة الدقيقة جدًّا من تأريخ الجزائر بدءًا من ثورة التحرير مرورًا بالجهاد المسلّح والنضال والاعتقالات والعمليّات الفدائيّة والاغتيالات، انتهاءً باستقلال الجزائر. يهدي ساري روايته إلى والديه، إلى الأب الذي شارك في تحرير الجزائر في نضالٍ استمرّ لسنوات، وإلى الأمّ التي كان لها نضالًا من نوع آخر... نضال الأمّ التي كانت الأب والأم في آن بغياب الأب سواءً في الحرب أو في المعتقل. ليستمرّ الأهداء شاملًا كلّ سكّان نواحي مدن عيزر وتيتامّوسي وريفاي الذين قصّوا الحكايات له ليتمكّن، حسب قوله، من تشكيل هذه الرواية. في هذه الرواية يتدامج التأريخ المكتوب، التأريخ الذي نعرف، عن تلك الحقبة الصعبة التي أدت إلى الاستقلال، أي الخمسينيّات وبداية الستّينيّات من القرن الماضي، بالتأريخ المُحتمل الحدوث، أو التأريخ الروائي المسرود عن ألسنة من عايشها اتّكاءً على الذاكرة الشفهيّة، ليتدفّق السرد تارة على تخوم التأريخ، وتارة على الخيال الممتزج بالواقع، ليكون محمّد ساري حاضرًا كمؤرّخ يوثّق ما حدث، وحكّاء يصف المكان والشخوص والانفعالات البشريّة والمشاعر المتضادّة على مدى أكثر من 350 صفحة وأربعة أجيال بتوضيفٍ ذكي للخطاب السياسي الشعبوي، ليس خطاب المنابر والبِدل، وإنّما خطاب البسطاء، الفلّاحين الذين لم يذهبوا يومًا إلى مدرسة، ولم يُلَقّنوا حبّ الوطن من كتب التأريخ في المدارس، لكنّهم رضعوا عشق الأرض من ثدي حياةٍ عافروا فيها سعيًا إلى الاستقلال. لم يعتمد الكاتب تقنية ضمير المتكلّم، أو السارد الأوحد في هذه الرواية، وهي تقنية متعارف عليها بروايات السير، بل انتقى تقنية تعدّد الرواة، أي الذات الساردة التي تختلف باختلاف شخوصها، فعلى مدى الرواية يظهر أربعة رواة: الأب، الأم، الإبن، وابن العم، بالإضافة إلى الحوارات التي رافقت الرواية والمحكيّة عن لسان أصحابها. سرد العمل كان استذكاريًّا تراوح بين الحوارات "بين شخصين أو أكثر"، المونولوجات الداخليّة وخاصّة في فصول الابن، ومنولوجات حواريّة "سرد الأب والأم لابنهما"، لنكون أمام نصٍّ يزخر بالتنقّل الرشيق بين القاصّين بلغة كانت رشاقة انتقالها بين مستوى لآخر لا تقلّ جمالًا عن تعدّد الرواة. لم تناقش الرواية أزمة الاستعمار الفرنسي للجزائر فقط، وإن كانت هذه الثيمة هي لبنة العمل الأساس، لكنّها أيضًا تطرّقت إلى مواضيع شتّى، كدور المرأة في المجتمع الجزائري، فهي الأمّ المناضلة في المنزل بغياب الأب، وهي أيضًا المُسعفة في ساحات الحرب. كما وطرحت فكرة التعليم وأهمّيّته في بناء الجيل، ليعدّ الكاتب التعليم نوعًا من الجهاد حتّى وإن كان المجاهد في السجن. كما وناقشت الرواية الفروقات الكثيرة بين أهل الريف والمدينة، والتغييرات الديموغرافيّة التي تقع على المدن بسبب الحرب التي تجبر أبناء الريف على الهجرة إليها � مدينة شرشال الجزائريّة أنموذجًا، إذ يصفها الكاتب بالمدينة "الكوزموبولتين"، مشبّهًا هجرة القبائل إلى المدينة بنوع مختلف من الاستعمار. ولم تغب شرائح المجتمع المتعدّدة عن الرواية، والتي بدورها أضفت طابعًا خاصًّا للعمل يكتشف القارئ من خلالها الوضع المأزوم في تلك الفترة، فنتعرّف إلى الشامبيط والهيّوف والفلّاقة والفلّاح والمثقّف والأمّي والمجاهد الخائن والمسجون والإمام الجيل الأوّل والثاني والثالث والرابع لعائلة البطل. عنصر المكان لعب دورًا مهمًّا في الرواية، ليس فقط على صعيد الوصف والاهتمام بدقائق تفاصيله، سواء كان مكانًا خارجيًّا كوادي عيزر وبركة العروس، أو داخليًّا كالسجن والمنازل الفقيرة، ولكن أيضًا على صعيد الحدث، فنلاحظ كيف أثّر المكان على نجاح الكثير من عمليّات المجاهدين، فبيئة الجزائر كانت كريمة معهم، مانحةً إيّاهم الكثير من الكهوف والأشجار للاختباء من عين الفرنسي، كما تسرد الرواية بدقّة وعورة الأرض هناك ما يصعّب انتقالهم من مكانٍ لآخر، ناهيك عن الوصف الأخّاذ لبيئة الجزائر من أنهر ووديان وبساتين وحقول ومزارع على مدّ البصر. إنّ رواية "نيران وادي عيزر" عملٌ مهم، استطاع الكاتب من خلاله توجيه رسالة محبّة وعرفان لوالديه ولجميع من قدّموا التضحيات في سبيل استقلال الأرض. استطاع ساري من خلاله التغلّب على نمطيّة السير الروائيّة التي تتحوّل كثيرًا إلى توثيق جامد يؤرّخ الحدث زمانيًّا ومكانيًّا على حساب الداخل الإنساني....more
ملاحظة: ناقشنا الرواية في نادي صنّاع الحرف للقراءة بحضور الكاتب
"تل أبيب الإسكندريّة" لعماد مدين: إخفاقٌ روائي لتوثيق مرحلة مهمّة من التأريخ العربي والملاحظة: ناقشنا الرواية في نادي صنّاع الحرف للقراءة بحضور الكاتب
"تل أبيب الإسكندريّة" لعماد مدين: إخفاقٌ روائي لتوثيق مرحلة مهمّة من التأريخ العربي والمصري
الفكرة الجميلة المُنفَّذة بشكلٍ غير جيّد، هي كالقماش المخملي المُصمَّم بشكلٍ قبيح. هذه هي الفكرة التي راودتني طيلة قراءة رواية "تل أبيب الإسكندريّة" للكاتب والسيناريست المصري عماد مدين والصادرة عن دار العين في العام 2023. أبدأ بالعنوان والغلاف وأقول إنّهما كانا العتبة الأولى لإخفاق الرواية. فرغم جمال تصميم الغلاف، لكنّه وإن دقّقنا فيه وجدنا ضعف الصلة بينه وبين محتوى العمل، إذ تصدّرت الغلاف صورة لعاشقين وهما داسا وفريدة، بينما لم يكن حيّز هذه القصّة في الرواية، لا مساحةً ولاتأثيرًا، يسمح لها بأن تتربّع على عرش الغلاف. ناهيك عن الغلاف المنوّط باسم مدينتين لم تساهما بشكلٍ ملفت في الأحداث إلّا كونهما وعاء للأحداث. العنصر الآخر الضعيف في الرواية هو لغة الكاتب التي أتتني غير مقبولة. وهنا بالطبع أضع الكثير من اللوم على دار العين ومدقّقها وأسأل: هل من الطبيعي في رواية عربيّة كتبها كاتبٌ عربي ودقّقها محرّر ونقّحها مدقّق وقرأتها لجنة قراءة أن تخرج بهذا الشكل اللغوي المخزي؟ أنتقل إلى الأسلوب الذي قرّر الكاتب نسج روايته به. استخدم مدين أسلوبي الإجمال (أي زمن الخطاب أقصر من زمن القص) � الحديث المقتضب عن فترة سجن داسا ونينو أنموذجًا، وأسلوب الإسقاط (أي إسقاط فترة ما من حياة الشخوص) - وأخفق الكاتب كثيرًا في هذا، إذ لم يتعمّق في حياة الشخوص بشكلٍ جدّي، فلم تكن الشخصيّات تنمّي الحدث ما أضعف صلة الشخصيّة بالحدث من جهة، وبيني وبين الرواية ككل من جهة أخرى. وأنا كقارئ، لا يمكنني فهم دوافع الأزمة من دون فهم طبيعيّة الشخصيّة وهذا ما أخفق الكاتب في تحقيقه. وهذا ما يوصلنا للضعف الشديد للكاتب الذي قرّر عدم الدخول في معركة الكتابة الروائيّة واكتفى بقصص الشخصيّات الحقيقيّة كما هي وكما وجدها في كتب التأريخ ما جعل أسلوب الأرشفة السيناريوهيّة بارزة في العمل ما قاد الكاتب أيضًا السقوط قي فخّ الانزلاق في الخطابيّة والتأييد والرفض المباشرين. كما واستخدم الكاتب الفلاش باك، القصّ الانزياحي والارتجاع الزماني الذي لا يتقيّد في زمن، إذ انتقل 10 مرّات بين أزمنة وأمكنة معيّنة مقسِّمًا الفصول بحسب اليوم والشهر والسنة والمكان ما أثقل الرواية من دون أيّ معنى أو حاجة روائيّة لهذا التقسيم الممل. فصول كثيرة وشخصيّات لم يكن لها أيّ داعٍ في الرواية مثل فصل الاعدام، فصل جولدا مائير، وغيرها. ومن عثرات الرواية الآخرى الأنتقال غير المبرّر من الراوي العليم للحديث بضمير المتكلّم عن لسان نينو في الصفحة 28. كارثة الرواية الأكبر بالنسبة لي هي عدم توظيف الزمان والمكان بالشكل الصحيح. فدلالة المكان لم تكن في الرواية مكانةً حيزيّة، بل مجرّد جغرافيّة باهتة حاول الكاتب تجنّب مصيدتها بعنونة الفصول بحسب أماكنها إدراكًا منه إنّه غير قادر على إيصال المكان سرديًّا. فكان الانتقال من فضاء إلى فضاء لنفس الشخصيّة ضعيفًا جدًّا � انتقال بول بين باريس ولندن والاسكندريّة وتل أبيب أنموذجًا. لم تسلم الرواية من عشرات الثغرات في العمل أقول عن البعض منها: ما سبب رغبة نينو بزيارة السجن؟ وزيارة من؟ وماذا حدث لطلبها بتلك الزيارة؟ وما قصّة نينو وليفي في الشاليه الذي ذكره الكاتب في بداية العمل؟ من هو موسى مرزوق الذي ظهر فجأة في الرواية؟ كيف يحاول بول خداع القنصل الألماني وإيهامه بأنّه بول فرانك وكما عرفنا أنّ بول فرانك ضابط ألماني متقاعد؟ أين وكيف ومتى بدأ خلاف بول وبينيت؟ كيف يحاول بينيت الانتحار في السجن ونجده مرّة أخرى في الزنزانة ومعه شيفرة! لماذا غاب صموئيل عن المحاكمة؟ لماذا لم نر الحكم الصادر بحقّ ميوحاس؟ ماذا حدث بقضيّة النقود المختومة من البنك الاسرائيلي؟ والكثير الكثير من الكوارث اللغويّة والترقيميّة والسرديّة والتأريخيّة في هذه الرواية. بشكلٍ عام، الرواية ضعيفة جدًّا على جميع الأصعدة من الغلاف وحتّى النهاية الإفلاطونيّة لجاسوس مصري يهودي عرف الجميع أنّه خان مصر التي عاش بها. جاسوس يعود إلى مصر بعد سنوات فيستقبله محمود المصري بالأحضان! هذه ليست سقطة روائيّة، هذه إساءة لشعب كامل حمل القضيّة الفلسطينيّة على أكتافه وحارب من أجلها لسنوات، وهنا من وجهة نظري تسقط الرواية....more
"بياضٌ على مدّ البصر" لمحمّد عبد الرازق علي: حكاية مصريّة تنتصر للإنسان
ليست قراءة رواية "بياضٌ على مدّ البصر" للكاتب والطمن مقالي في صحيفة العربي جديد
"بياضٌ على مدّ البصر" لمحمّد عبد الرازق علي: حكاية مصريّة تنتصر للإنسان
ليست قراءة رواية "بياضٌ على مدّ البصر" للكاتب والطبيب المصريّ الشاب محمّد عبد الرازق علي (1996) هيّنة، وهنا لا نقصد على صعيد اللغة أو الفكرة المعقّدة أو حجم الرواية، فالعمل الصادر حديثًا عن "دار العين للنشر"، والواقع في مئة وثمانين صفحة، يمتاز بلغةٍ مباشِرة خالية من التعقيد والتكلّف من جهة، ومن أُخرى جاء مكثّفًا من حيث المضمون الفكري وما أراد الكاتب أن يقوله لنا. يهدي عبد الرازق روايته الثانية، بعد "الوقوف على العتبات" (2022)، إلى البراءة، ليضعنا مباشرةً قبالة عتبة النصّ الأولى التي تتلاحم وتتقاطع مع الغلاف الذي توسّطته صورة فتاة مُجلبَبة بالخَضار بعينين غائبتين، ليعكس الغلاف باتّحاده مع الإهداء القهر الذي سيرافق القارئ طيلة أحداث الرواية. بعد قراءة الفصل الأوّل تشعر أنّك قبالة حكاية جريمة قتل، وهذا قد يكون صحيحًا إلى حدّ ما. لكنّ الرواية أوسع وأشمل من مجرّد مقتل ياسمين الذي أفصح عنه الكاتب مبكّرًا، وهنا تأتي تقنية "الميتا-قص" في السرد. أيّ أنّ النص يُخبر شيئًا عن ما وراء السرد � ما وراء القص. فماذا أراد الكاتب أن يقول لنا؟ هذه ليست فقط قِصّة ياسمين التي راحت ضحيّة التخلّف والذكوريّة، بل هي قِصّة تحدث كلّ يوم في بيوت كُثر. هذه حكاية نساء ومراهقات، وحتّى طفلات، قُتلن بدمٍ بارد بحجّة "الشرف" و"الدفاع عن العِرض" في مجتمعٍ بطريركي ضاعت فيه مفاهيم العفّة بين ضوضاء العادات والتقاليد والجهل. هل هي صرخة لمن لا صوت لهم؟ هل هي دعوة لتجريم القاتل اللاثي تحت قناع جريمة "الشرف"؟ هل هي رسالة توعويّة للآباء وللأمّهات لفهم أبنائهم، للحوار معهم، لاستيعاب مخاوفهم وضعفهم؟ أعتقد أنّ الكاتب أراد أن يعالج كلّ هذه الأمور تحت ستار جريمة قتل ياسمين. اشتغل الكاتب على روايته بلغة بسيطة، فنادرًا ما تُطالعنا جملة أدبيّة تستوقفنا بلاغتها، وفي واقع الأمر هذا لا يعيب هذا العمل تحديدًا، فعلي كان يلعب على عنصر الشحن العاطفي بلغة مُعاشة تستطيع تصديقها من دون أن تسأل: مِن أين أتت هذه اللغة البليغة لامرأة ريفيّة بسيطة كهذه؟ لذلك كان الكاتب يحصّن روايته بجمل قصيرة، كلمات أليفة، وتعابير، على بساطتها، تصيب القارئ بمقتل. قسّم الكاتب الرواية لفصول قصيرة، مُعنوِنًا كلّ فصل باسم شخصيّة من شخصوص الحكاية، فتوزّعت الفصول بين الشخوص الرئيسة، أي حليمة (جدّة ياسمين)، ورضا (شقيقها)، وهالة (الأُمّ)، ومسعد (الأب)، والدكتور عبد المنعم، وبالطبع ياسمين الشخصيّة المأزومة الأساس. هل نجح الكاتب بهذا التقسيم الذي نسمّيه في النقد الأدبي "القصّ الانزياحي"؟ أدبيًّا ونقديًّا لا ضير في ذلك، لكنّ، ومن وجهة نظر شخصيّة بعيدة عن النقد الأكاديمي، كان من الأفضل لو لم تكن الفصول على شكل خلق سيرة ذاتيّة لكلّ شخصيّة، ذلك أنّ الشخوص تتقاطع حيواتهم في ما بينها، وتتناضح قِصصهم لتخطّ مسار العمل، فلا يمكن للقارئ أن يُتابع فصل حليمة مثلًا من دون احتكاك روايتها مع رواية هالة أو ياسمين، فكان ثمّة ظلم لبعض الشخوص على حساب أخرى. ونبقى مع أسلوب الكاتب، حيث تقنية تحرير السرد من التتابع الزمني والتي كانت موفّقة جدًّا. فالرواية تعتمد اعتمادًا كلّيًّا على "الفلاش باك" وتشظّي الزمن، وإن كانت أحداث الرواية تقع في يومين تقريبًا، إلّا أنّنا نعود لسنوات ماضية لندرك ونبرّر سلوكيّاتهم في العمل. وبالطبع لا يمكن للقارئ فهم ماهيّة الحدث من دون تحليل دوافع محرّكيه. لذلك أرى تفتيت آليّة السرد زمنيًّا كانت موفّقة جدًّا. لكن في مقابل هذه الجماليّة، يُهيمن الراوي العليم على حساب أصوات أبطال الرواية. كان من الأجدر، هنا، لو أفرد الكاتب مساحةً لكلّ شخصيّة لتتحدّث بلسانها، خصوصًا إن سمح حيّز الرواية الزمكاني بذلك. ربّما تدارك الكاتب قليلًا هذه المشكلة بتضمينه بعض الحوارات عن لسان الشخوص، لكنّ تلك الحوارات لا تُشبع نهم القارئ لسماع منولوغات كلّ شخصيّة بمعزل عن الراوي العليم. عنصر المكان كان حاضرًا بقوّة في العمل، سواءً المكان الخارجي الذي تمثّل بالقرية... الحاضن الأساس للحدث، أو الداخلي الذي تجسّد بعدّة أماكن كفضاء الإنترنت (السايبر)، ومنزل ياسمين، ومنزل الجدّة والمدرسة. المكان الداخلي كان أكثر سطوةً على الشخوص من المكان الخارجي حتّى وإن اتّفقنا أنّ جميع الأماكن الداخليّة هي جزء من المكان الخارجي إذ أنّها جمعاء في القرية. تظهر أهمّيّة "السايبر" من خلال تأثيره في التكوين الجنسي للمراهق رضا، شقيق ياسمين. فهو الذي فتح عينيه على عالم الأفلام الإباحيّة وشكّل رغباته غير السويّة تجاه الجنس الآخر، ولم يكن تأثير فضاء الإنترنت عليه أقلّ تأثيرًا من المدرسة، حيث خطّ تنمّر الطلبة عليه وعلى شكله أثلامًا صدّعت كينونته كرجل. ناهيك بالطبع عن منزل ياسمين، مسرح الحدث الأساس الذي نترك للقارئ متعة اكتشافه بنفسه. تترك الرواية قارئها مشدوهًا؛ الكثير من الأفكار والمواقف، كمفهوم "الفضيحة"، والخوف الدائم من الطلاق كأنّه وصمة عار في حياة الزوجة تحديدًا، والشكّ غير المبرّر الذي قد لا يقود للطلاق فقط بل للجريمة في الكثير من الأحيان، والختان وكيف كان هَمّ الجدّة الوحيد وهي تغسل جثّة ياسمين أنّها غير مختونة أو هل هي "بنت بنوت". كأنّ سلطة "الشرف" أشدّ تأثيرًا من سلطة الموت. في ما يخصّ الشخوص، فكانت جميعها مرسومة بحرفيّة، حتّى الثانويّة منها. لكن الشخصيّة اللافتة، رغم دورها المحدود في الرواية، هي شخصيّة الضابط حسام، فهو رمز للضعف البشري الذي خلق إنسانًا متسلّطًا. في "بياضٌ على مدّ البصر" نحن قبالة رواية أنيقة لكاتب واعد يعرف ما يكتب، ولماذا، ولمن يكتب في "فوضى النشر" التي نعيشها.
ملاحظة: استضفنا الكاتب في نادي صنّاع الحرف للقراءة...more
قبل أن أبدأ. أنا لا أعرف محمّد الفخراني حتّى على الصعيد الأزرق. لمن يعرفه، برجاء إيصال سلامي له.
"غداء في بيت الطبّاخة" لمحمّد الفخراني: الحرب ضحيّة تسقبل أن أبدأ. أنا لا أعرف محمّد الفخراني حتّى على الصعيد الأزرق. لمن يعرفه، برجاء إيصال سلامي له.
"غداء في بيت الطبّاخة" لمحمّد الفخراني: الحرب ضحيّة تسخر من جلّاديها
التجريد الذي يستخدمه محمّد الفخراني في روايته "غداء في بيت الطبّاخة" الصادرة في العام 2023 عن "دار العين للنشر" يُغزَل على عاملَين مشتركَين متقاطعَين في لعبة سرديّة روائيّة محكمة البناء. العامل الأوّل هو التوصيف الفلسفي للحدث من خلال التكثيف الرمزي في القص، والعامل الآخر هو شخصنة هذا الحدث والتعامل معه كعنصر منضَّد ومنضِّد في العمل. إذن الحرب، ثيمة الرواية الأساس، ليست مجرّد حدث قهري، بل هي شخصيّة حكّاءة نسمع منها... لا عنها فقط كما اعتدنا، وأعتقد أنّ الفخراني هو أوّل من تناول الحرب من هذا المنطق غير المطروق في الرواية العربيّة، أو بهذا الشكل على أقلّ تقدير. في الغالب، يقع أغلب الرواة العرب في فخّ "سفسطئة" الروايات الوجوديّة كأنّهم في حربٍ مع القارئ يتنافسون عليه لزجّه في عنكبوتيّة غير مفهومة من الشيفرات التي تكون أحيانًا غير مفهومة للكاتب نفسه. الفخراني لم يبتلع الطُعم، إذ قدّم نموذجًا ممتازًا للمجاز الروائي الحيوي والذي يتفاعل مع القارئ بشكلٍ عفوي، فنّي، وممتع... من دون الإغراق في رموزٍ عجائبيّة وفلسفاتٍ عقيمة. وهذا بالطبع لا يلغي حقيقة أنّ الرواية عميقة، ولم تكن مطالعتها باليسر الذي قد تتخيّلوه، فرغم قدرة الفخراني "العجيبة" على ضخّ عشرات الصور البلاغيّة المجازيّة في مشاهدَ صغيرة، إلّا أنّه حافظ على شعرة معاوية وأبقى سرديّته ضمن النطاق الديناميكي التفاعلي للرمزيّة. تبدأ الرواية بمشهدٍ عاديّ. جنديّ في معركة يقابل جنديًّا آخرَ فيحاول قتله برصاصة بينما يحاول الآخر قتل الأوّل بسكّين. المفارقة تبدأ بشكلٍ مباشر ومن دون تأخير بعد هذا المشهد، حيث ينطلق الحوار الأهم في الرواية عندما يسأل أحدهما: "هل أنت متأكّد من أنّك تريد قتلي؟". يفتح السؤال البسيط هذا الباب لعشرات وربّما مئات التساؤلات المشروعة، ليس فقط بين الجنديّين، ولكن بيننا نحن، بيننا وبين ذواتنا وحيواتنا وحيوات من نعرف وملّا نعرف. وإن كانت الحرب هي العمود الفِقري للرواية، لكنّني، ومع تدفّق السرد، شعرتُ كأنّ الكاتب يحاكي مآسٍ أكبر من الحرب ذاتها، إذ أنّ الحرب هنا نتيجة، ردّة فعل... أو ربّما الوباء. ولكلّ داءٍ ذاك المسبِّب اللعين، حشرة، فيروس... أو ربّما تجربة مختبريّة أرادوها فاشلة! الرواية تنقسم إلى قسمين. القسم الأوّل بمجمله يتأطّر بين الجنديّين العالقَين في خندقٍ ما في ساحةٍ من ساحات الوغى اللعينة. التلال تحوّطهما من جهة والغابة من الجهة الآخرى... لتبدأ حكايا التعارف بينهما تكرج بلا توقّف. أمّا الجزء الثاني فهو عن لسان الحرب. الحرب كما لم نعرفها من قبل. ليست كقضيّة إنسانيّة خاسرة، ليست كفشلٍ بشري... بل كشخصيّة مستقلّة أرادت الحديث عن نفسها بنفسها، بلسانها، بقوّتها وضعفها، بمخاوفها وأحاسيسها ومزاجيّتها. بأحلامها العبثيّة، العاديّة، الطبيعيّة والمُستحَقّة. هل فكّرتم من قبل بالحرب كضحيّة؟ فكرة قد تبدو مجنونة وجائرة. لكنّ هذه الرواية ستجعلكم تفكّرون بها ومن دون شكّ. ولي قناعة إنّ الرواية التي تخطّ فكرةً مجنونةً في رأسي هي رواية تستحقّ أن تُقرأ. الفخراني يسأل كثيرًا في روايته، يسأل كمن يحتاج الجواب، يحتاجه بالمعنى الحرفي... ليس ليعرف فقط، بل ربّما ليُبرّر ما حصل لملايين البشر الذين ماتوا في الحروب، ليبرّر موتهم، ليفهمه... لعلّه يرتاح. لماذا نحارب؟ تسأل الرواية. لماذا نموت في الحروب؟ من أجل مساحة أرض؟ ثروات؟ معادن؟ نفط؟ موانئ؟ وماذا بعد؟ ماذا بعد الحرب التي لا تتوقّف عن تفريخ حروبٍ آخرى؟ ماذا عن هذه الدوّامة التي ابتلعت وتبتلع وستبتلع البشر في كلّ مكان؟ نغوص خلال القصّة بحياة الجنديّين خارج الخندق، ندخل عوالمهم المغلقة، عوالمهم التي قد تكون عاديّة جدًّا، فلا شيء مُبهِر بها. هذا زوج وأب ومدرّس تأريخ، وذاك طبّاخ يعشق أمّه الطبّاخة. قصصهم ليست فائقة العمق، خارجة عن المألوف... والفخراني لم يردها هكذا... بل أرادها أن تكون قصّتي وقصّتك وقصّة من نراهم كلّ يوم في الشوارع والحافلات وفي المطاعم. وكم نجح في ذلك وأثلج صدري! تتشابك مصائر الجنديّين ببعضها، يطرحان التساؤلات، يحاولان الإجابة عنها. يكتبان الرسائل. هذا يكتب لأمّه ويعطيها لزميله... زميل مهنة الحرب. "خذها، اعطها لأمّي إن أنا متّ!"، وذاك يكتب لابنته وزوجته ويسلّمها لزميله... "خذها، اعطها لأسرتي إن أنا متّ!"، هذا ينام والآخر يحرسه، وذاك يغفو والآخر يسهر على راحته. يبدّلان الضمّادات على جرحيّ بعضهما، الجرحان سبّباهما بنفسيهما لبعضهما. ثمّ يزرعان حبّة ذرة... يسقيانها في قربتيهما ويراقبانها بأعينهم تكبر وتعلو كأنّها تنتفض على سخافة الحرب. رواية صادمة، عميقة، قاسية، مؤلمة، فيها الكثير من الشجن. أبدع الفخراني في رسم كلّ تفصيلة لها حدّ الخلق التصويري للمشهد بموسيقى علت فيها دفوف الإبداع هزمت طبول الحرب المبعَّجة. محمّد الفخراني كاتب مصري من مواليد 1975. صدر له "بنت النيل"، "فاصل للدهشة"، "قبل أن يعرف البحر اسمه"، "قصص تلعب مع العالم"، طرق سرّيّة للجموح"، "ألف جناح للعالم"، عشرون ابنة للخيال"، مزاج حرّ"، "أراك في الجنّة"، و"لا تمت قبل أن تحبّ"....more
خيّبت أملي كثيرًا، إذ أعرف عدنية الناشطة في مجال السياسة وأعرف عمقها وأفكارها وطروحاتها. ماذا أرادت عدنية أن تقول في هذا الكتاب؟ هذا ليس تفصيل ثانوي، خيّبت أملي كثيرًا، إذ أعرف عدنية الناشطة في مجال السياسة وأعرف عمقها وأفكارها وطروحاتها. ماذا أرادت عدنية أن تقول في هذا الكتاب؟ هذا ليس تفصيل ثانوي، بل تفاصيل ثانويّة......more
لا شكّ أنّ رواية "ربع الرز" للمصريّة شيماء غنيم عمل طموح، إذ أرادت الكاتبة اختزال حيوات فئة كاملة من مجتمعٍ كبير بمئتي صفحة تقريبًا. ومن هذا المنطلق بلا شكّ أنّ رواية "ربع الرز" للمصريّة شيماء غنيم عمل طموح، إذ أرادت الكاتبة اختزال حيوات فئة كاملة من مجتمعٍ كبير بمئتي صفحة تقريبًا. ومن هذا المنطلق بدأت غنيم صياغة منطلق روايتها جاعلةً من الظلم والعدل في آن لبنة لعملها، فالفعل نفسه الذي يقع على شخصيّة قد يكون عدلًا إلهيًّا من جهة، أو ظلمًا من جهة أخرى، فأن يخون سالم زوجته هو العدل بعينه لِما اقترفته زهرة من مصائب في حياتها، لكنّه قد يُرى كفعل ظالم لامرأة تركت مهنة الليل وحفظت كرامة زوجها. تقنيًّا استخدمت الكاتبة أسلوب التقطيع السينمائي في السرد، وهو أسلوب يفيد في تكثيف الأحداث وإضفاء البعد الدرامي عليها، لذلك كنّا نجد الأفكارمتماثلة في شخوص حقيقيّة موجودة في الواقع المعاش، إذ كانت جميع الشخوص فروعًا تنبع من جذر واحد رغم اختلاف قصصهم ونقط انطلاقها، ولكن لكلّ شخصيّة من شخصيّات النساء الثلاث في الرواية خاصّيّة تمثّلها وتميّزها عن الأخريَين لتتضافر لاحقًا هذه الخصائص وتقدّم صورة بيانيّة واحدة لفكرة الكاتبة وهي انهزام المرأة في المجتمع وإن كانت شخصيّة نرجس تبيّن عكس ما تضمر. الجميل في هذا الأسلوب السينمائي هو أنّ الكاتبة خلقت شخوصًا لها نظائر كثيرة من عامّة الناس حولنا. الرواية انقسمت إلى قسمين رئيسيّين من حيث الزمان، القسم الأوّل هو اللحظة الحاضرة والتي تبدأ مع بداية الرواية بحادثة حرق ستيتة وسط ربع الرز عشيّة وفاة سعد زغلول، والقسم الثاني هو ذكريات الماضي القريب، إذ كانت أغلب ذكريات الشخوص تعود إلى ما يقارب الخمس سنوات إلى الوراء، باستثناء نرجس التي تعود بنا إلى طفولتها في الصعيد. وعلى صعيد الأفكار، فيمكنني أيضًا تقسيم العمل إلى محورين: المحور الاجتماعي - الاقتصادي، متمثّلًا بالكثير من الأفكار، كالفقر والبغاء والخيانة الزوجيّة والفتوّات وظروف العيش السيّئة والحب والاستغلال... ومحور سياسي وإن كان واهنًا لكن لا يمكن تجاهله... إذ احتوت الرواية على الكثير من الإسقاطات السياسيّة كأن يكون حادث ستيتة في يوم وفاة سعد زغلول، أي وضعت الكاتبة مواطنة عاديّة بل أقلّ من العادية تتعرض تقريبًا لحادثة قد تودي بحياتها، ورجل سياسة محبوب من الشعب على كفّتي ميزان واحد، لتستعرض تفاعل الشخوص الأخرى في الحي مع هذين الحدثين... فتُترك ستيتة تحترق وسط الربع بينما الأعين تبكي سعد زغلول الذي توفّي في فراشه! كما لم تغب الانتقادات عن لسان بعض الشخوص لسياسة زغلول وعكست بساطة وسذاجة الفكر القائم حينها إذ تقول شخصيّة في الرواية إنّ سعد زغلول فلّاح مثلنا وسيفهمنا، وفي حقيقة الأمر أنّ زغلول لم يكن يومًا فلّاحًا لا هو ولا أيّ من أفراد عائلته منذذ سنة 1840. أمّا الحدث الأهم فهو تصدير الاستعمار للبغاء في مصر، إذ ارتبطت دومًا فكرة النخاسة بالعرب، لتفضح الرواية فصلًا مسكوتًا عنه وهو "الرقيق الأبيض الغربي".
الأسلوب: تتفنّن شيماء غنيم في تجسيد الواقع المعاش، والاحتفاء بعالم الأشياء المادّيّة والمحسوسة، المتنوّعة والمعقّدة لتعزّز صورة الرواية الواقعيّة كونها صورة من الحياة، سواءً على صعيد المكان متمثّلًا بالربع بوصفه الحاضن الأساس للأحداث، فنشاهد الوصف الدقيق للغرف، للجدران المهترئة، للأسقف الكئيبة، للنفايات بين الممرّات، لكثرة الساكنين فيه، للمدخل، للنقوش المرسومة عليه. كما وصف المحروسة بدقّة من نهر النيل الهادئ، الحمّام، الترومواي ورمزيّته العميقة في النص بوصفه القاتل الذي لا يرحم بإسقاطٍ قد يكون سياسيًّا يجسّد ثنائيّة الظالم والمظلوم، بيوت البغاء وما يدور خلف أبوابها المغلقة، الخمّارات، وحتّى الحياة اليوميّة في الشوارع وبين الدكاكين. أجادت الكاتبة دوزنة الحدث وضبطه على إيقاعين أساسيّين وهما الزمان والمكان، لغةً وطرحًا، فاستخدمت غنيم بعض الأحداث الحقيقيّة التي شغلت المحروسة وقتها مثل موت سعد زغلول وأربعينيّته والقلق السياسي حينها بسبب النفوذ البريطاني في البلاد، وعلى صعيد الزمن الروائي، أبقت الكاتبة فتيلة التشويق باللعب على الزمن حاضرة، فكنّا نلاحظ التقسيم الزمني الدقيق لكلّ حدث وقع للشخوص. وعلى صعيد المكان فاتّحد المكان الداخلي أي الربع بغرفه، بالمكان الخارجي أي القاهرة. قوّة المكان كانت صارخة في العمل، فأس البلاء كان الربع الملعون من صاحبه الوزير، كما وأغلب الأحداث الرئيسة مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالمكان، فستيتة ونرجس تخبّآن أموالهما في غرفهما، مكتب المخدّماتي هو من يزجّ بزهرة في سلك الدعارة، وبالطبع بيوت الدعارة، وباحة الربع حيث تُحرق ستيتة ويُقتل سالم ونرجس. إذن فالمكان الداخلي لعب دورًا أساسيًّا في رسم صورة الحدث. وهنا لعب الكاتبة على عالمين: عالم خارجي مرئي للجميع، وعالم داخلي بين الشخصيّة ونفسها، لذلك رأينا أسلوب المناجاة الداخليّة حاضرًا بقوّة وبقسوة في الرواية ما عمّق العلاقة بين الشخصيّة والأشياء من حولها، مشهد مضاجعة سالم لزهرة وغوصها بتفاصيل السقف وتشابك الحبال مع بيت العنبكوت أنموذجًا، وبين الشخصيّة ونفسها من جهة آخرى، لوم زهرة وتقريع ذاتها كأنّها السبب في ما حصل لستيتة، ثمّ قلب الفكرة وطردها كنوع من تبرئة الذمّة. وهذه التقنية في الكتابة طرحت الكثير من الإشكالات النفسيّة في ما يخص كيف يتعامل الإنسان مع المتغيّرات والثوابت من حوله، الحاضر والماضي، المجهول والمعلوم، كيف تفكّر الشخصيّة؟ كيف تتفاعل، كيف تتصرّف؟ الجميل إنّ إيقاع المكان لم يطغ على إيقاع الزمن، فكلّ أخذ نصيبه العادل. إجادة البناء الروائي لا يقلّ أهمّيّة عن إجادة الوصف. أعتقد أنّ شيماء نجحت بالوصف، كما ونجحت بخياطته بهيكل الرواية، إذ تتوضّح عوامل القص من خلال التقدّم في الرواية لتتكشّف الأسرار تباعًا. كما نلاحظ من خلال القراءة تقنية مزج السرد والحوار والوصف في جملة واحدة، وهذه تقنية صعبة للغاية يخفق معها كبار الكتّاب، لكنّني أعتقد أنّ غنيم نجحت بها. الإغراق بالمحكيّة المصريّة بشكل مبالغ به لم يكن موفّقًا دائمًا، ما قلّل القيمة الأدبيّة للعمل في بعض المواضع، على الأقلّ من ناحية اللغة والبلاغة. ولكن في أحيان كثيرة كانت المحكيّة المصريّة لطيفة وتناسب الفترة الزمنيّة وخلفيّات الشخوص.
الشخوص: جميع شخوص العمل كانت معقّدة التركيب، متصدّعة وغارقة في المأساويّة والخوف والتشابك، وتطرح قضيّة صراع الفرد من قوى أكبر منه. كصراع الجميع مع فوزي الفتوّة، صراع زهرة مع نرجس، وصراع مسعود مع قريته، وصراع سالم مع أحمد، وغيرها من الثنائيّات المتضادّة ندًّا بند. ركّز العمل على ثلاث شخوص لثلاث عوالم مختلفة: العجز � ستيتة، الرذيلة � نرجس، والبحث � زهرة. وثمّة بالطبع شخوص أخرى في الرواية لكنّها تبدو كأنّها إشارات سريعة تلقي الضوء على شيء معين وترحل. شخوص الرواية تجمعهم رابطة المكان الواحد، وهو "ربع الرز" حيث يسكنون. يجمعهم المكان ويؤثّر بهم رغم اختلاف الخلفيّات التي أتوا منها، فنرجس معشوقة الرجال تمثّل الجمال المقابل لكلّ القبح الذي يحيط ويعيش بالربع، وستيتة الأنموذج الأهم لهذا القبح إذ صوّرتها الكاتبة دميمة وقذرة، لتبقى زُهرة في المنتصف، فرغم أنّها امرأة مليحة ومتزوّجة، لكنّها كئيبة على الدوام، لا تبتسم إلّا لمامًا، عاقر، وضعيفة البنية. تتعرّض الشخوص إلى مواقف فرديّة لكنّها تتشابك مع شخوص آخرين، وهنا أجادت الكاتبة في اللعب على عنصر التشويق. فما حصل لستيتة أثار مخاوف زهرة ونرجس، لكن لماذا؟ لا نكتشف هذه التفاصيل بشكلٍ مباشر وسريع، وهنا أودّ الإشارة إلى الطريقة المميّزة التي أنهت الكاتبة فصول الرواية بها، إذ كانت تتركنا دومًا مع علامة استفهام كبيرة. شخوص العمل أتت حبلى بالحركة الجسديّة والنفسيّة، أي ما نسمّيه بالنقد والحركة المكا-زمانيّة. فجميع الشخصيّات كانت تبحث عن الحلول، عن الخلاص، عن الانعتاق من وضع، من شخص أو من ماضٍ. ونشاهد في الرواية التغيّر في حركة الشخوص على حسب الحدث، فمشي أحمد أفندي وفي جعبته الهموم، غير مشي أحمد وقد انعتق منها وكان ذلك حاضرًا بالوصف. فهنا نراه مهموم يناجي النيل الساكن، وهناك نراه فرحًا طربًا تلفحه نسمات الهواء المنعشة. البناء الفنّي للشخوص في بداية الرواية فقط لم يكن موفّقًا، لم يكن جادًّا ولا مخلصًا معهم، إذ استعملت الكاتبة أسلوب المناجاة الداخليّة بشكلٍ متكرّر وأدخلت الحوار الذاتي بين الشخصيّة ونفسها، وهو بالطبع ما أضعف السرد بسبب التكرار غير المبرّر لهذه التقنية. كنت أفضّل لو استعملت الكاتبة تقنية مختلفة لكلّ شخصيّة حسب مزاجيّة الحدث، وكان للكاتبة فرص كثيرة للخروج من قوقعة السرد والمناجاة والداخليين. ....more
عند قراءة أغلب الروايات المصريّة الصادرة مؤخّرًا، يتبادر إلى الذهن نوع من الألم والغضب لتلك الحالة من التردّي في النتاج الأدبي، إلّا من رحم ربّي. من أعند قراءة أغلب الروايات المصريّة الصادرة مؤخّرًا، يتبادر إلى الذهن نوع من الألم والغضب لتلك الحالة من التردّي في النتاج الأدبي، إلّا من رحم ربّي. من أين لهؤلاء "دور النشر ومن يكتب لها" الجرأة على النشر والكتابة في غياب الموهبة والثقافة واللغة؟ وبعيدًا عن الرداءة، اخترت صدفة أن أقرأ رواية لسلوى بكر التي لم أقرأ لها من قبل، وهذه الرواية هي فيلة سوداء بأحذية بيضاء. هذه الرواية الصغيرة الحجم والكبيرة كبر السماء. وكم أنا شاكر لهذه الصدفة التي عرّفتي إلى سلوى بكر.
في روايتها، ترصد بكر القيم الاجتماعيّة والفكر الإيديولوجي الذين كانا سائدين في أواخر الستّينيّات في مصر، تلك القيم والمفاهيم المتصارعة فيما بينها، مؤسّساتيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا، وصولًا إلى ثمانينيّات القرن الماضي وكيف تحوّلت القاهرة من مدينة الجمال والانفتاح إلى مدينة قذرة تنقّب نسائها وتطيل لحي رجالها. الرواية طرحت الكثير من الأحداث السياسيّة التي غيّرت خارطة المنطقة، مثل اتّفاقيّة كامب ديفيد، رحيل عبد الناصر، اغتيال السادات وهزيمة أكتوبر، النشاط الطلّابي السياسي في الجامعات، وغيرها الكثير. لكنّ الحلقة الأقوى في الرواية كانت في كيف ينقلب المثقّف الطموح إلى متأسلم ملتحي يرى المرأة عورة وجب تكفينها بالنقاب والتعامل معها كسلعة رخيصة. أحببت كثيرًا إشارة الكاتبة إلى العنف الذي تتعرّض له المرأة بالقانون، هذا القانون الذي ينصف الذكر دومًا، وكيف لم تتخلّص بطلة الرواية من زوجها "المتأسلم" إلّا بعد صدور قانون الخلع. الرواية بشكل عام تجسّد معاناة المرأة في المجتمع الشرقي المتخلّف وانعكاس الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة وتعميقها لتلك النظرة الدونيّة لكلّ ما هو مؤنّث وكيف يختزل المجتمع عنصر الأنثى وكيانها بتأدية وظيفة واحدة... وهي الانجاب. ومن هنا فمفهوم الجنس الذي طرحته بكر يطلّ علينا كغيره من المفاهيم المتخلّفة التي يمارسها الرجل بصولجان الجهل على جسد المرأة، كأن يتحكّم بلباسها وجبرها على الحجاب، وترك الوظيفة والجلوس في المنزل كأيّة قطعة أثاث لا لزوم لها. سلوى بكر تكتب بأسلوب هادئ ملفت. جملها قصيرة لكنّها عميقة. تستخدم أسلوب التكثيف السردي في طرح أفكارها. بعيدة تمامًا عن البهرجة اللغويّة. تختصر كثيرًا إيصالًا للفكرة بأقلّ قدر من الكلمات، وهذا أسلوب ممتاز. غابت الصور البلاغيّة عن الرواية، وهذا لم يزعجني أو يفقدني الاستمتاع بالقراءة. فالكاتبة ذكيّة، لمّاحة، وتعرف كيف تصطاد اهتمام الكاتب بصنّارة القلم وطُعم الكلمة. من أجمل الروايات النسويّة التي قرأتها ومن أفضل الكاتبات المصريّات المعاصرات. سأقرأ لها مجدّدًا بالطبع. وهنا أقول، سلوى بكر مثال على أنّ الرواية المصريّة بخير، رغم القُمّة التي تعيش فيها بفضل دور نشر وكتّاب مستطرقين على هذا الفنّ الجميل....more
في رواية "المطوان" ينقلنا الكاتب الأردني رمضان الرواشدة إلى عالمه الخاص، عالمه الممزوج بين الواقع والخيال. بأسلوب الكتابة التعاقبيّة يبدأ الرواشدة روفي رواية "المطوان" ينقلنا الكاتب الأردني رمضان الرواشدة إلى عالمه الخاص، عالمه الممزوج بين الواقع والخيال. بأسلوب الكتابة التعاقبيّة يبدأ الرواشدة روايته بالحديث عن حيّ صويلح وترنّحه بين هجرة اليساريين من أهل الجنوب إليه، وبين تحوّله على يد الإخوان المسلمين إلى حيّ "قم الصغرى" ليضعنا بشكلٍ مباشر أمام عتبة النصّ الأولى وهي التغييرات الإديولوجيّة في الأردن في وقتٍ حسّاس لم يُناقش كثيرًا ربّما في الرواية الأردنيّة من قبل.
قسّم الرواشدة روايته إلى خمسين فصل وملحق تنقّل بينها برشاقة وبراعة مكثّفًا السرد من دون إطالات رصدًا للموقف والحالة التي يريد نقلها للقارئ، فبعض الفصول احتوت على جملة واحدة فقط. الرواية تناقش التنظيمات السرّيّة في الأردن، وتحديدًا معاناة الشيوعيين، كما وتتطرّق إلى مفهوم النضال الطلّابي في عهد الملك حسين في إشارة واضحة إلى أنّ الملك لم يكن راضيًا بشكل كامل عن نشاطات رئيس الحكومة آنذاك. نرافق عودة في رحلته مع الانضمام للحزب، تخبّطه بين ما يريد وما يُراد منه، علاقته بسلمى الفلسطينيّة الآتية للدراسة في عمّان من رام الله، وصولًا إلى حبسه لثلاث سنوات بسبب مشاركته في مظاهرة ضد ارتفاع أسعار الخبز. الرواية تشكّل حلقة مغلقة من الأحداث السريعة الخاطفة، فهي مختصرة كدمعة، ومؤلمة أيضًا كدمعة... تبدأ بمحنة شاب وتنتهي وقد تجاوز تهيًا من عمره، بعيدًا عن زوجته وابنه الذي لم يره إذ يولد وهو في المعتقل. عودة يعيش اغترابًا عن كلّ شيء، حتّى عن حزبه والمبادئ التي آمن بها، عن قريته التي تغيّرت حالها بغياب الأصدقاء وارتفاع المباني الشاهقة على حساب ملاعب الكرة التي جرى فوقها صغيرًا، عن سلمى التي عادت إلى فلسطين وزوّجوها أهلها من شخص آخر، وعن نضال، ابنه، الذي لم يره قط. أحببت بعض الإسقاطات السياسيّة في الرواية، وتحديدًا الفصل 12: "ومع السنوات، وبعد أكثر من دوري، وعشرات الجروح والكدمات، أصبحت لاعبًا مدافعًا في إحدى الفرق الشعبيّة، ولم أكن أتعدّى دوري المرسوم إلّا مرّات قليلة حينما تهيج المشاعر، وأُصبح مهاجمًا أكسر رجل من يعترضني، لكنّني في الغالب لا أصل إلى مرمى الخصم!"، إسقاط ذكي جدًّا يحاكي ضعف عودة في الحزب وفشله في تحقيق إيٍ من أهدافه. لم يغب مفهوم الأسرة عن العمل، فنتابع الكثير من المشاهد عن علاقة عودة بأمّه "الطبّاخة البريمو"، وعن والده العسكري الذي رغم قسوته في عمله في تعذيب المعتقلين، لكنّنا نلاحظ الجانب الإنساني منه عندما انهكته هذه المهنة وقرّر تركها عندما كان يضرب أحد المعتقلين الشباب فتراءت له صوره ابنه أمامه فخرّ صريع نوبة بكاء ما أدّى إلى سجنه. رواية سريعة، تُقرأ بأقل من ساعة، لكنّها مؤثّرة، قاسية، صريحة، وصادمة....more
"لا شيء أسود بالكامل" لعزّة طويل: رواية اللاشيء بالكامل
هل حصل وقرأت روايةً كلّ ما فيها بشع؟ الغلاف، العنوان، وبالطبع المحتوى؟ هذا ما حصل معي في رواية "لا شيء أسود بالكامل" لعزّة طويل: رواية اللاشيء بالكامل
هل حصل وقرأت روايةً كلّ ما فيها بشع؟ الغلاف، العنوان، وبالطبع المحتوى؟ هذا ما حصل معي في رواية (مع تحفّظي الشديد على وسم هذا الشيء الهجين بالرواية)... "لا شيء أسود بالكامل". بداية، الكاتبة لا علاقة لها بالكتابة وصدقًا لا أعلم من قرأ ونقّح وحرّر هذه الكارثة. الكتاب يفتقر للمقوّمات الأساس لرواية، لن أقول ناجحة، بل مقبولة. مشكلة بعض من يكتب، اعتقادهم بأنّهم بكتابة شذرات وشطحات بلا معنى، أنّهم يكتبون رواية سورياليّة، وأنّ غياب القصّة والمحرّك الأساس والبعد الدرامي للرواية يعني أنّ الرواية ما ورائيّة، عميقة، وعصيّة على فهم العقول البسيطة من أمثالي. يبدأ ضعف الكاتبة بعدم قدرتها على رسم ملامح واضحة لشخوصها. لتستمرّ الأزمة في الكتابة بالغياب التام للخيال الأدبي، العجز في إيصال الفكرة وربط الأحداث ليس فقط ببعضها ولكن حتّى بمعنى معيّن أو ثيمة أو فكرة وإن كانت بسيطة. فقرّرت هنا الكاتبة اللجوء للفصول القصيرة، وفشلت. ثمّ جرّبت تجريد الرواية من الرواية والاتّكاء على مفهوم النوفيلا لعلّها تجتزئ علل العمل بحجّة الرواية القصيرة لا تستوجب شخوص معقّدة... جرّبت وعافرت لتنجو بروايتها، لكّنها أخفقت أيّما إخفاق ووجدت نفسها وسط مأزق شخوص تائهة، حبكة غائبة، وتصنّع مقيت في الكتابة. بعض القصص في هذا الكتاب تثير الضحك، وتحديدًا قصّة مطار شارل ديغول والحديث السنسكريتي الذي دار بين الموظّفة وهدى... حوار مائع لا منطقي بين لبنانيّة وموظّفة فرنسيّة تنصح اللبنانيّة بألّا تعود لبيروت لأنّ بيروت تحترق! ثمّ تعطيها درسًا أسريًّا في التربيّة، لتختتم الحوار الإفلاطوني بانتقاد العرب على مسمع المطار! ناهيك عن التسخيف والتسطيح في طرح ومعالجة مشاكل شائكة في الوطن العربي سواء ما يخصّ الحرب السوريّة أو الحرب الأهليّة اللبنانيّة. تشعر وأنت تقرأ العمل كمن فتح خزانة ملابسه، جمّع الخرق البالية من أقمشة عتيقة اعتقادًا منه أنّه يصنع ثوبًا جميلًا.. مشاكل العمل لا تتوقّف عند الطروحات الساذجة، ولكن في الكثير من الهفوات الأخرى سواء نحويّة أو غير نحويّة، كأن ترى طفلة رضيعة تتحدّث وتقول "هونيك هونيك" ص74، وأن تتحوّل الصديقة في ص74 إلى صديق في ص76، وهلم جرًّا. القفز غير المنطقي بين راوٍ عليم وشخصيّة تتحدّث بلسانها، أحداث تظهر وتختفي من دون مبرّر، أفكار مبعثرة هنا وهناك بلا عمق أو مغزى... عزّة طويل بحاجة للكثير من التدريب، والقراءة، والاطّلاع لتستطيع كتابة رواية مقبولة. واحدة من أسوأ الروايات التي قرأتها في حياتي. لا أنصح بها....more
قادتني دواعي ثيمة العام في نادي صنّاع الحرف للقراءة "أزمات المدن والأوطان" إلى رواية "رقصة أوديسا" الصادرة عن دار العين للنشر. وكم أنا سعيد بهذه المصاقادتني دواعي ثيمة العام في نادي صنّاع الحرف للقراءة "أزمات المدن والأوطان" إلى رواية "رقصة أوديسا" الصادرة عن دار العين للنشر. وكم أنا سعيد بهذه المصادفة الحلوة. تبدأ الرواية بالذروة ومن ثمّ تهبط إلى السفح... أو ربّما البحر! لتعلو مجدّدًا كأنّك تقرأ تقريرًا إي سي جيًّا لتخطيط القلب. وكما فتح أيّوب عينيه بعد حادثة القارب تائهًا في أرضٍ لا يعرفها، فتحنا نحن القرّاء أعيننا على نفس الحادثة نلملم التفاصيل من هنا ومن هناك لندخل سكّة السرد ونكابد مع أيّوب في رحلته العجيبة المليئة بالأوجاع. تبدأ الرواية بمأزق أيّوب العالق في جزيرة إسبانيّة بعيدًا عن زوجته الحبيسة بدورها في آزوفستال، وابنته المتواجدة في روسيا. ومن هنا ينطلق مثلث الحدث. ليبدأ ميهوبي بالتدريج من خلال السرديّات الكاشفة في بناء الصلة التي تجذّرت بيننا وبين هذا الراقص... الفنّان... الأب.... الزوج... الذي انتعل البحر ومشى... الرواية تجسّم الظلم الذي يتعرّض له البشر في الحروب، طارحةً الكثير من الأفكار السياسيّة والاجتماعيّة التي كانت تسود فترات كثيرة ومتباعدة في التأريخ الروسي، الأوكراني، الأوروبي والجزائري، بدءاً من الثورة البلشفيّة، مرورًا بالحرب العالميّة الثانية، خلافات روسيا مع الأطلسي، وصول غورباتشوف للسلطة، العشريّة السوداء، وانتهاءً بالحرب غير المنتهية بعد بين روسيا وأوكرانيا.
شخوص الرواية: انقسمت شخوص الرواية إلى ثلاثة أقسام: شخوص حقيقيّة مثل رودولف رونييف وغورباتشوف، شخوص متخيّلة أساسيّة في العمل: أيّوب وكلاريسا، وشخوص ثانويّة: ركّاب القارب وعائلة أيّوب وكلاريسا. لم تتعدّ شخصيّة على مساحة آخرى، كلّ أخذ نصيبه المستحقّ. وهذا يُحسب للكاتب. فكانت الشخوص تظهر وتختفي ببراعة، في الوقت والمكان المناسبين. الشخصيّات الحقيقيّة كان لها دورًا منوطًا في العمل، فنورييف هو رمز انتصار أوروبا على روسيا والذي كان أيضًا ضد الاستعماريّة الفرنسيّة برفضه للجوائز الفرنسيّة، وغورباتشوف هو رمز الفشل الفكر الروسي بالخروج من قوقعة النمطيّة القيصريّة. أحبُّ الحديث عن أيّوب وكلاريسا، فنحن هنا أمام شخصيّتين أساسيّتين تواجه كلّ منهما موقفًا صعبًا بحثًا عن الآخر ليشاطره أحزانه، فأيّوب يلجأ إلى البحر، والصخرة، وفأره أيغور، وكلاريسا تلجأ إلى الجدار تنقش عليه بأظافرها المُنهَكة وجع كمنجتها. بالطبع كانت قصّة أيّوب أعمق في مأساويّتها ودلالاتها المكانيّة والفيزيائيّة، وأخذت الحيّز الأكبر من الرواية نابضةً بالصدق والحيويّة الروائيّة والحركات التقنيّة في أسلوب السرد الذي تراوح بين الروي بأسلوب الضمير المتكلّم، انتقالًا إلى التشظّي الزمني والمكاني، مرورًا بهلوسات سرديّة تجسّدت برغبة أيّوب خلق عالمه الخاص الذي يحكم فيه البحر والأسماك، وهنا نلاحظ تشظٍ آخر أبعد من الزمان والمكان، وهو تشظّي الذات ما يرسّخ وحدته في البحر داخل تابوت في قاربٍ متهالك، فشخصيّة أيّوب بعيدة كلّ البعد عن كونها شخصيّة قياديّة تناجي السلطة. أودّ الإشارة إلى أنّ الكاتب برع في رسم شخصيّة ثانويّة لكنّها شديدة التعقيد في العمل وهي شخصيّة "إيفان"، وكيف تحوّلت هذه الشخصيّة بصفحتين ليس إلّا من شخصيّة حالمة بدراسة الذكاء الاصطناعي إلى مقاتل همجي في الحرب الروسيّة الأوكرانيّة: "يشهد لي رؤسائي بالمهارة والدقّة. في حوزتي ما يفوق ثلاثين ضحيّة." فإيفان الذي كان يتباهى بما يريد أن يدرس، أصبح يتباهي بعدد قتلاه... "عندما أضغط على الزناد، وتتّجه الرصاصة نحو الهدف، يصير الموت أشبه بقطف زهرة."
أسلوب الكتابة: أستطيع أن أجزم أنّ رواية "رقصة أوديسا" تندرج في خانة "الآدب الواقعي" سردًا على الأقل، ولأسباب كثيرة أهمّها أنّ الكاتب لم يهتم بسرد المثاليّات، فحتّى شخصيّة أيّوب عانت من بعض الأنا والأنانيّة عندما أراد إنشاء مملكة يحكمها لوحده ولم يرد حتّى الفأر أن يشاركه بها، والسبب الآخر أنّ الكاتب استمدّ تفاصيله من الحياة العاديّة المعاشة كثيرة الحدوث، وتحديدًا فكرة "العالق في الحرب"، "والعالق في قارب غارق"، فكم عائلة عربيّة وغير عربيّة غاصت في كثبان الهجرة غير الشرعيّة هربًا من حرب أو بحثًا عن مأزوم؟ يبرع ميهوبي أيضًا بإخفاء الموقف والتركيز على تصوير آثاره، فحادثة غرق القارب لم تأخذ إلّا القليل من الرواية، ربما لم تتجاوز الحادثة السطر... ولكن مكابدات أيّوب بعد الحادث سُردت بفصلين كاملين، وتكرّر هذا الأسلوب في علاقة أيّوب وكلاريسا، فعلاقتهما قبل الزواج كانت سريعة السرد، بينما خصّص الكاتب الفصل الثاني "حديث اللحية والشقراء" لقصّ مرحلة وصولهما إلى الجزائر والمعاناة التي واجهاها خلال العشريّة السوداء. إذن، يمكنني القول إنّ ميهوبي استعاض عن الحدث بالنتيجة، واعتمد التكثيف السردي المبني على أثر الفعل وليس الفعل نفسه، ما خلق جوًّا ديناميكيًّا في الرواية خدم الشخوص... إذ تبلورت شخصيّة كلّ من كلاريسا وأيّوب بشكلٍ سينمائي رسّخ الفعل وردّة الفعل من دون الإطناب والإسهاب في تفاصيل قد تعرقل الخطّ الروائي وتبتلع القصّة في تضاعيفها. ومثال آخر على ذلك تجسيد الصراع الروسي الأوكراني بلسان شخصيّة إيلينا ويوري: "إذا رأيت أن تكون درعًا في يد أوّل جندي روسي، سأكون رمحًا في يد آخر جندي أوكراني."، وهما زوجان... فماذا أراد أن يقول ميهوبي هنا؟ لم يسلك ميهوبي مسلك العامّيّة المحكيّة في الرواية بشكلٍ سردي لصعوبة اللهجة الجزائريّة أوّلًا ولصعوبة إدراجها في السرد بين أيّوب وكلاريسا إذ إنّهما من ثقافتين مختلفتين، ولكن... لعب ميهوبي لعبةً روائيّةً ذكيّةً، إذ أدرج المحكيّة الجزائريّة وحتّى غير الجزائريّة من خلال السرد، فمثلًا نلاحظ وجود الكلمات الجزائريّة في النص، مثل "الحرّاقة" ونجد بعض الأغنيّات الجزائريّة أيضًا مثل "يا بابور اللوح"، وهنا أدّت اللغة المحكيّة غرضها بسلاسة ومن دون إثقال النصّ بحوارات قد تكون صعبة على القارئ المشرقي. ومن الملفت استخدام الكاتب لمصطلحات ظهرت حديثًا تناسب الحدث، مثل "أشباه النازيين" وهذه المصطلح ظهر أيّام الثورة البرتقاليّة عام 2004 ويشير إلى القوميين الأوكرانيين المتطرفين. قد يلاحظ القارئ تكرار بعض المشاهد في الفصل الثالث، وتحديدًا مشاهد أيّوب في الفصل الثاني عندما كان عالقًا في القارب. من وجهة نظري، التكرار هنا كان مطلوبًا، وأنا مع مذهب "بيير لوتي" في هذه الجزئيّة تحديدًا، فتكرار بعض الأحداث كان مطلوبًا على صعيدين: الصعيد الأوّل درامي بسبب الحدث، إذ يسرد أيّوب ما وقع له لصديقيه الجديدين من جهة، وللصحافي من جهة أخرى. الصعيد الثاني هو أنّ أيّوب الآن خارج القارب، فنحن أمام بنية مكانيّة مختلفة عن بنية السرد الأوّل لذلك غابت عناصر وظهرت أخرى في سرديّة الفصل الثالث عن سرديّة الفصل الثاني.
لم يفت الكاتب الحديث عن قريته: "أنا ابن القرية النائيّة التي لا نشاهد فيها أفلام السينما إلّا مرّة واحدة في الشهر أو أكثر عندما تحضر شاحنة من العاصمة فيضع الفنّيّون ستارًا أبيض على جدار المدرسة بينما نجلس في فنائها ويبثّون أشرطة دعائيّة للحكومة أو الحزب ثمّ يتبعونها بفيلم طويل، واعتدنا على أن يتوقّف العرض مرّات بسبب قدم الشريط أو تلفه."، والحديث عن التعبير عن الفرح بالبارود، ووصف القرية بشكل جميل. أبكاني مشهد أيّوب وهو يتفحّص متعلّقات "فاتح" بعد غرقه وموته، كتب "فاتح" خلف صوره تجمعه بوالديه واخته "عائلتي شجرة وأنا غصن فيها..."
هذه الرواية تحيّة للفن، وانتصار للجمال ونبذ للحرب والموت والقبح في هذه العالم... ستبقى هذه الجملة التي تتحدّث عن الرقص عالقة في ذهني: "نحن الذين لا نملك إلّا أجسادنا نصنع منها ما يعجز عنه الذين يجعلون من أجسادهم مجرّد مفرغة قمامة..." أخيرًا أودّ القول إنّ هذه الرواية شامخة لا يشبهها أيّ مما كُتب، وتفرّد هذا العمل يحتاج منّا وقفة لقراءة أسطرها أكثر من مرّة لإدراك مدلولاتها وأفكارها. شكرًا دار العين وشكرًا عزّ الدين ميهوبي. استضفنا الكاتب في النادي وحاورته في الرواية مع بقيّة الأعضاء وكانت جلسة رائعة....more
تبرز في الرواية ثنائيّة السلطويّة القمعيّة والسكوت عنها أو حتّى الرغبة بها من منطلق الحماية والانتماء، حيث أرادت الكاتبة أن تناقش واقع الإنسان المقهورتبرز في الرواية ثنائيّة السلطويّة القمعيّة والسكوت عنها أو حتّى الرغبة بها من منطلق الحماية والانتماء، حيث أرادت الكاتبة أن تناقش واقع الإنسان المقهور رغمًا عنه وتقاعُسًا منه في نفس الوقت حتّى لو على حساب تصدّع النظام المتعارف عليه واقتحام اللامعقول للحياة. وكانت قرية المائة الأنموذج الأكبر لهذا الخنوع وأنهار الأنموذج الأصغر. هذا القمع لم يتجسّد على صعيد القرية فقط ولكن أيضًا انعكس على القرية الأصغر وهي المنزل في شخصيّة عوض عندما أنجبت حسنيّة بنتًا لام الأمّ على ذلك كأنّها أجرمت، كما وعندما غابت عوض الصغير قال: "إن اختفت فتلك فضيحة وإن عادت فتلك فضيحة أكبر". وحتّى بداية التعريف بحسنيّة في الصفحة 8 أتت كالتالي: "كان أسوأ ما تعُدُه زوجة عوض في مطبخها على الإطلاق هو الدجاج"، إذ يعرّف عنها كزوجة لعوض وليس باسمها الأوّل "حسنيّة". ناهيك عن تعامله الفجّ مع حسنيّة: "تروحي إنتِ يجي غيرك"، "الحمير بس اللي بتولد بعد العاشر"، ووصفه لها بالأرض البور رغم إنجابها 8 أبناء. "بقالك قد إيه مشفتيش نفسك في المراية يا حسنيّة؟ حلاوة إيه دي! وليّة تعبانة في عينيها." أيضًا ثمّة وجود قوي لسلطة الخرافة متمثّلة بشخصيّة توفيق غير المعروفة للجميع، لكنّهم يؤمنون بها وبقوّتها. الثيمة الثانية في الرواية هي ثيمة الأسطورة السيريّة العجائبيّة في شخصيّتي عثمان جد العمدة، وشخصيّة توفيق، والأسطورة العجائبيّة في شخصيّتي عوض الصغير وعمير. الجميل إنّ هذه الأساطير لم تكن عشوائيّة بل حملت متونًا أدبيّة متكافئة وقويّة في طروحاتها تحمل بين طيّاتها الكثير من الإسقاطات الاجتماعيّة والسياسيّة ومكنوناتها التي نعيشُها اليوم والمرتبطة بشكلٍ مباشر بالإنسان. الملفت إنّ الكاتبة استعملت الأسطورة كأداة للقص والحكي وليس كجنس أدبي، لذلك لا نستطيع أن نقول إنّ هذه الرواية رواية واقعيّة سحريّة فانتازيّة وهي بذلك تنتصر لنظريّة جان نويل النقديّة على نظرية تودوروف فيما يخص العجائبيّة في الرواية. فتودوروف يقول إنّ العجائبيّة يجب أن تكون نصًّا وجنسًا أدبيًّا مستقلًّا، بينما نويل يقول إنّ العجائبيّة يمكن أن تكون وسيلة حكي في أيّ نصٍّ أدبي. وهنا أيضًا تتّفق رحاب مع فكرة إنّ العجائبيّة لا علاقة له ببنية الحكي واللغة فقط وإنّما هي الرؤية المغايرة للأشياء. الخرافات أيضًا كانت حاضرة في الرواية، فمثلًا يقول الحلّاق لعوض إنّ الجنّي عمير يتلبّس الأطفال الذين لا يعجبون آباءهم، فيتبنّاهم عمير ويصيرون أبناءه. كما تخلّلت الرواية فكرة جميلة وهي البحث عن الأمّ\الأمان، وتمظهرت هذه الفكرة بعلاقة داوود بسيادة، وعلاقة العمدة بأنهار. إذ كان داوود يبحث عن بديلًا لأمّه بعد وفتها في سيادة، وكانت علاقة العمدة بأنهار علاقة طفل بأمّه أكثر من علاقة زوج بزوجته: "لم يكن يشتاق حقًّا لمواقعتها بقدر شوقه لذلك الحضن الطويل، العميق، الذي يغفو بداخله أحيانًا." وتصف الكاتبة علاقة العمدة بأنهار بالسكن... "لم يكن شبقًا، بقدر ما كان لقاؤهما سكنًا." أحببت فكرة عدالة السماء التي طرحتها الرواية في قصّة عثمان عندما ظلمته قريته، اتّهمته بالسرقة وطردته وعائلته، ليُكافأ من حيث لا يعلم بقرية جديدة يكون عمدتها لسنوات. الزمان والمكان: لا تتّكئ الرواية هنا على عامل الزمن ولكن على عامل المكان، إذ غاب الزمن كلّيًّا عن السرد ولم يكن له دورًا في سير الأحداث، فالبطل هنا القرية المتجرّدة عن الزمان، كأنّ الكاتبة تقول لنا إنّ هذه القرية تعيش في زمنٍ خارج الزمان، وهنا إحالة على تفرّد المكان بالقصّ بعيدًا عن الزمان. تشكّل القرية الفضاء الأساس والخارجي للرواية مع وجود الفضاءات الداخليّة مثل البئر، المسجد، منزل جابر، ومنزل توفيق والسور الذي كان مصدرًا للتأمّل والحديث بين داوود وعوض الصغير الصامتة دومًا. وهذه الفضاءات الداخليّة كانت دائمًا تغري بحدوث أشياء غير متوقّعة، مثل البئر، فلأيّ غرضٍ ممكن أن يُستعمل بئر في وسط منزل؟ أو منزل توفيق حيث يذهب المختارون من دون عودة. إذن المكان في رواية قرية المائة أثّث أحداث العمل بشكل أنيق إذ كان الحاضن الأوّل والأخير للأحداث. الأسلوب واللغة: العنوان يحيل إلى حالة الرواية ويطبّع المكان بشكل مباشر في الكلمتين، فحتّى كلمة المائة تشير إلى المكان عطفًا فالعدد هنا مرتبط بالحدث المكاني، وهنا يضعنا العنوان في تأؤيل مبدئي لعتبة النص، والسؤال هنا يُطرح: ما علاقة العدد مائة بالقرية؟ والعنوان الذي يثير تساؤل من أيّ نوع هو عنوان ناجح. الغلاف أيضًا كان ناجحًا جدًّا فالخلفيّة الخضراء تشير إلى الأرض، أي القرية هنا، وهذه الفتاة التي تمثّل القرية أيضًا في إغماضها لعينيها كأنّها غافلة أو متغافلة عن الحقيقة. تكتب رحاب لؤي بهدوءٍ ممزوج بالغضب، مستخدمةً أسلوب الكتابة التعاقبيّة في العمل من دون تسمية الفصول. الفصول أتت قصيرة متوجّهة لحدثٍ معيّن وشخصيّات محدّدة من دون إهمال تأثير الفصول ببعضها، فمثلًا فصل غياب عوض الصغير يؤثّر في فصل آخر أبطاله العمدة وأنهار وسعديّة، وعلى فصلٍ آخر بطليه عوض وحسنيّة، وفصلٍ ثالث بطليه داوود وسيادة، وهذا الأسلوب شكّل دائرة مغلقة بين الشخوص ما ينعكس على دائرة حياتهم المغلقة في قرية المائة المعزولة عن العالم. جميع الشخصيّات كانت محوريّة تتجاذب فيما بينها وهنا تكمن قوّة بناء الشخوص، إذ ما ادركنا أنّنا نتحدّث عن قرية صغيرة فيها مائة شخص فقط. الرواية جمعت بين أسلوبي الواقعيّة والفانتازيا، فلم تغرق بأيّ منهما على حساب الآخر، فنجد العمل يتحدّث عن عادات بسيطة بلهجة محلّيّة في وصف الطبليّة والطعام وخزانة الملابس، وأيضًا على صعيد آخر نلاحظ القصص الخرافيّة مثل إن تمطر الدنيا حجارة وقصّة بركة الديك الذي أنقذه عثمان، والجنّي عمير وتوفيق الذي أنقذ القرية من الغرق وإلخ. للكاتبة القدرة على الغوص في التفاصيل اليوميّة التي تخلق من الرواية كيانًا حيًّا معاشًا للقارئ برفقة شخوص العمل، فمثلًا تصف مشهد الطبليّة في منزل جابر قائلة عن لسان الراوي العليم: "بحذرٍ أكبر امتدّت الأيدي تلمس الجبن القديم لمسًا، هكذا فعل الجميع، كأنه اتّفاق مسبق على أن تكون اللقم كبيرة واللمسات خفيفة لسطح الجبن." لم تغب الإسقاطات السياسيّة عن العمل، فقول كلمة "لا" في قرية المائة قد يكلّفك حياتك وحياة من تحب، رفض أبو يوسف تسليم ابنه لرسول العمدة كلّفه حياته وحياة ابنه وحياة زوجته... فهل كلمة "لا" اليوم في بلداننا باهضة الثمن؟، وكذلك فكرة الإبقاء على عدد معيّن من الأشخاص في هذه القرية وألّا يكون بينهم ذكور نجباء. هذه الإسقاطة كانت الجوهر الأساس في العمل، فهي تشير بأصابع الاتّهام للنظام العالمي الذي يريد الحفاظ على عدد معيّن من البشر فوق الأرض ما يفسّر الكثير من الأوبئة المصطنعة والحروب العبثيّة. وفكرة القضاء على الذكور النجباء لا تبتعد كثيرًا عن هذه المؤامرة العالميّة لإبقاء السلطة والقرارات في فلكٍ ضيّق. الأنكى هنا أنّه حتّى عندما تُكشف الألاعيب، يرفض العامّة تصديق الحقيقة، خوفًا أو اقتناعًا، كأنّ على رأي المثل الشعبي "الي تعرفه أحسن من الي متعرفوش"، وهنا كانت نهاية الرواية صفعة قاسية كأنّها تريد أن تقول كفاكم من سبات فاختتمت الكاتبة الرواية بمشهد رائع عندما فضحت سعديّة حقيقة العمدة لكنّ أحدًا لم يصدّقها أو يكترث حتّى للسؤال، حتّى أنهار التي رأت البئر بعينيها واسماعيل الذي لم يكن راضيًا عن قانون المائة لكنّه فضل البقاء آمنًا مع المجموعة، وهنا تبرز ثقافة القطيع. الشخصيّات: اتّسمت بعض شخصيّات قرية المائة بالبعد العجائبي مثل عوض الصغير وتوفيق وعثمان، والبعض الآخر اتّسم بالواقعيّة والطبيعيّة مثل عوض الأب وأنهار وداوود وحسنيّة وسعديّة، وهنا استطاعت الكاتبة أن تزاوج بين ما هو واقعي ملموس وبين ما هو غرائبي ماورائي عن طريق الشخصيّات أكثر من الحدث بذاته. فجميع الأمور غير العاديّة كانت تحدث للأفراد وتنعكس على شخوص آخرين في الرواية، فإسباغ صفة القداسة على توفيق خلقت منطق المائة والمختارين في القرية، واعتقاد أنّ عوض الصغير ممسوسة انعكس على كيفيّة تعامل أهلها ومن ثمّ أهل القرية معها، وحتّى ما حصل لعثمان من كرامات معتقدة قاد إلى ترأسِّه العمادة وتخليفِها لابنه وثمّ حفيده.
أودّ الإشارة إلّا أنّ شخصيّتي داوود وعوض رمّزت للانسانيّة بوجهين مختلفين، فارتقت الانسانيّة بمعاملة داوود لعوض، بينما تحقّرت على أيادي والدي عوض ومعاملتهما لابنتهما.
استضفنا الكاتبة في نادي صنّاع الحرف للقراءة وناقشناها في العمل لمدّة ثلاث ساعات. كانت جلسة رائعة واتّسمت الكاتبة بالبشاشة ورحابة الصدر وتقبّلها للنقد ما زاد اعجابنا بها. شكرًا رحاب لؤي على هذا الإبداع...more