ŷ

لو كان عرضا قريبا!

أخبرنا ربنا تبارك وتعالى عن نفسيةقومٍ لا يخوضون الجهاد لأنه بعيد الثمرة، وهذا البُعْدُ هو ما جعلهم يتثاقلونويتباطؤون ويتخلفون عن الجهاد مع النبي �. وبيَّن ربنا، وهو العليم بالنفوس البصيربما في القلوب، أن الثمرة لو كانت قريبة لكانوا قد خرجوا مجاهدين.

قال تعالى {لَوْ كَانَ عَرَضًاقَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُالشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْيُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].

ونحن نرى مصداق قول ربنا هذا في زمانناالآن، فانظر وتأمل كم واحدًا كان فرحا مسرورا فخورا بما وقع في طوفان الأقصى لماوقع، وانظر كم منهم الآن من يتحدث عن خطأ الحساب ومرارة التكاليف وقسوة الأوضاع،بعضهم يُصَرِّح وبعضهم يُلَمِّح أن قرار الطوفان كان قرارا خاطئا، وأن تكاليفهكانت شديدة وأنها كانت مغامرة غير محسوبة!

وما من شك في أن حرب غزة لو كانت قدتوقفت بعد شهرين أو ثلاثة أو ستة، لكان أكثر القائلين بهذا يقولون بغيره، بلبعكسه، ولربما جادت قرائحهم بالأقوال اليانعة في عبقرية من اتخذ قرار الطوفان بمايرفعهم عن مصاف البشر وبما يجعلهم معدن الحكمة!

فهل مثلُ هذا الحال حالٌ أدقُّ في وصفِهذه العلة: بُعْدُ الشُّقَّة؟!

فالمسألة إذن نفسية، وبحسب ما تحتملالنفس من المشقة تُكَيِّف الموضوع، وقد يتبع العقلُ النفس في هوها وتحملها، فمااحتملته كان عبقرية وحكمة، وما عجزت عن احتماله كان تهورا وخطأً!

وقد يسأل سائلٌ مستفسرًا ومستفهمًا: فكيفنُفَرِّق إذن بين جهاد محمود بعيد الشقة بعد الثمرة؟ وبين الخطأ المذموم الذي يوصفبالتهور وخطأ الحسبة وركوب الأهوال واقتحام المخاطر بغير عدة؟!

للجواب على هذا السؤال وأشباهه، كُتِبتهذه السطور..

(1)

إن الجهاد في غزة وفلسطين، هو جهاد دفعليس جهاد طلب، فالأصل فيه أنه قائم مشتعل لا يهدأ ولا يفتر، وقد يُقدِّر المجاهدونهدنة قصيرة أو طويلة لالتقاط الأنفاس أو لإعداد عدة، دون أن يعني هذا أن الجهاد قدتوقف وارتفع الواجب فيه.

وجهاد الدفع ليس هو الذي يُشترط فيهويلزم فيه وقوع غلبة الظن بالظفر والنصر، بل هو مطلوبٌ بما توفر وحضر من العدةوالعدد، فهو من نوع الذي يجاهد مدافعا عن نفسه وعرضه وماله، قد يخوض غمرة الموتمدافعًا دون أن يتحقق له غلبة الظن بأنه قادرٌ على الدفع والظفر! وقد شهد النبيلمن فعل ذلك بالشهادة في قوله: من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون نفسهفهو شهيد، ومن قُتِل دون عرضه فهو شهيد.

وقد قرر العلماء في جهاد الطلب جواز،وبعضهم قال باستحباب، أن يفعل المجاهد ما قد يكون فيه هلكته إن كان في فعله هذانكاية بالعدو وإرعاب له، فكيف إن كان الواقع في جهاد الدفع، وفي دفع الصائل، وهوالأمر الذي ليس بعد الإيمان بالله شيء أوجب منه؟!

وإن الناظر في واقعنا المعاصر ليعلمويرى أن من المستحيل تحققه في المدى المنظور أن يبلغ المجاهدون في العدد والعدةمثلَ الذي هو عند عدوهم، إن الواقع شاهدٌ بهذا، كيف وهم محاصرون من أنظمة الخيانةوالغدر، وعدوهم ممدود بحبل الغرب والأمريكان وأنظمة الخيانة نفسها.

إن صرف الوقت انتظارا لاكتمال العددوالعدة ليست له ثمرة إلا أن تزيد الفجوة بين ما لدى أهل الجهاد، وما لدى العدو..وهو ما يجعل المهمة تزداد في كل يوم عسرًا وعنتًا ومشقة واستحالة!

(2)

لقد تكرر في القرآن والسنة الثناء علىقوم قاموا بالحق حتى هلكوا فيه ولم ينتصروا..

انظر إلى أصحاب الأخدود، آمنوا باللهوكفروا بالطاغية، فحفر لهم أخدودا ملأه نارًا، ثم أحرقهم فيه.. أبادهم!

وانظر إلى سحرة فرعون، وهم يكفرونبفرعون ويؤمنون بموسى أمام الجمع الحاشد الكبير، ثم يضربون هيبة فرعون وجبروته فيمقتل حين يستخفون بتهديده وعذابه، فماذا كان؟.. أتى لهم بالجنود يعذبونهمويقطعونهم حتى أهلكهم وأبادهم!

وانظر إلى أصحاب الكهف، كيف قاموابالحق فعبدوا الله وكفروا بآلهة قومهم حتى لم يأمنوا على أنفسهم، فخرجوا يلتمسونالمأوى الآمن بعيدًا، فألقى الله عليهم النوم حتى بعثهم بعد ثلاثمائة عام.. إذانظرت إلى هذا المشهد من جهة القوم الكافرين، فكيف تراه؟!.. ترى قوما من "الإرهابيين"و"الخوارج" و"المتطرفين" هربوا من وجه القانون حتى لا ندري فيأي أودية الأرض هلكوا!

وانظر إلى امرأة فرعون وإلى ماشطةابنته كيف آمنتا بالله وكفرتا بفرعون وتحملتا العذاب، حتى لقد هلكت الماشطةوأطفالها تعذيبا وإحراقا..

ولقد أخبرنا نبينا برجليْن بلغا مرتبةواحدة: أحدهما قُتِل شهيدا وهو يُقاتل، والآخر قُتِل بعدما جهر بكلمة الحق في وجهالجبار الجائر، كلاهما بلغ مرتبة سيد الشهداء، وكلاهما لم يكن بميزان الدنيا منالمنتصرين!

وأزيدك من الشعر بيتا.. أو من التاريخقصصا..

إن الأمة المهزومة المستضعفة لا تبدأمسيرة نهضتها إلا بأفواج من الاستشهاديين، نعم، بهؤلاء ذوي النفوس الفولاذية التييبلغ إيمانها مبلغًا تنهار معه القوى المادية كلها، فيُقدم على عمل يراه الناسانتحارًا، ويكون هو البذرة الأولى في كل قصة نهوض!

ماذا كان يرجو بلالٌ من حظ الدنيا حينكان يقول في عذابه الرهيب: أحدٌ أحدٌ؟!

وماذا كان يرجو خبيب بن عدي من حظالدنيا وهو يقول على خشبة الصلب:

ولست أبالي حين أُقتل مسلما .. على أيجنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ .. يباركعلى أوصال شلو ممزع

ولا تحسبن هذا قاصرًا على أمتنا وحدها؛لا.. لقد وُجِد في الأمم كلها أمثال هؤلاء "الانتحاريين" الذين بذلوانفوسهم في سبيل تثبيت أقوامهم على عقائدهم، حتى وإن كانت باطلة.. لم يزل الإسبانحتى اليوم يُعَظِّمون قوما "انتحاريين" كانوا يأتون إلى قلب الساحةالرئيسية في قرطبة العظيمة إبان ذروتها فيتعالنون بسب النبي والقرآن والإسلام،يريدون بذلك تثبيت قومهم النصارى لما يرونه من ذوبان النصرانية وانكماشها أمام قوةالإسلام وحضارته. ولأن المشهد كان عجيبا فقد تعامل معهم قضاة المسلمين باعتبارهممجانين فلم يحكموا عليهم بالقتل غير مرة.. أولئك المجانين تراهم أمة الإسبان أولمن ثبَّت النصرانية وأول من قاوم الوجود الإسلامي.

وفي التاريخ أمثال هؤلاء مما لا يتسعله المقام.. إنما أذكرهم لأقول: لا بديل لكل أمة مستضعفة تحفظ وجودها عن"استشهاديين" يخرقون قانون القوة ومنطق العقل ليمنحوا الدين والإيمانوقودا من دمائهم المسفوكة ونورا من نفوسهم المسفوحة!.. هكذا بدأ الإسلام قصته!وهكذا بدأت كل قصة نهضة من بعد هزيمة!

(3)

وإذن، فهل كان قرار طوفان الأقصى قرارعملية استشهادية جماعية؟!

لست أدري.. وأغلب الظن عندي أنه لم يكنكذلك، وأن الذي اتخذ القرار لم يكن يتوقع ردًّا بهذه الدموية، ولا توقع كل هذهالخيانة من أنظمة الغدر والخيانة العربية والإسلامية!

وقد يخطئ المجاهد فيخوض معركة لا تكوننتائجها كما أَمَّل وترجى وتمنى.. فإنما المجاهد بشر، وهل كان المجاهد معصوما؟!

ما من أحد يستطيع أن يقول بأن كل معركةخرج لها النبي أو خلفاؤه الراشدون أو الفاتحون والصالحون من الأمراء والسلاطين كانتمحسومة النتيجة لصالح النصر، وإنما هو التقدير الذي قد يصيب وقد يخطئ، ولو كانالإنسان لا يقدم إلا على معركة النصر فيها محسوم لما كان ذلك منه بطولة ولا جهادا،بل هذا أقرب إلى الانتهازية وركوب المصلحة..

ما البطولة ولا الشجاعة ولا البسالةإلا الثبات في الموطن المخوف والمنزل الرعيب والاستئساد في ساحة الخوف والصلابةحين تميد الأرض وتكفهر الأجواء وتظلم الأنحاء!

ولولا ذلك ما وُصِف بطل بالبطولة، ولاشجاع بالشجاعة، ولا باسل بالبسالة!

ثم إن حسبة النتائج هذه متعذرة أصلا فيحال الدنيا وطبائعها، فما من معركة يمكن الحسم بنتيجتها قبل أن تبدأ.

وقد وقع في سيرة نبينا الأعظم � أنهُزِم جيش المسلمين، ووقع أن حاصروا مدينة ولم تفتح لهم رغم استبسالهم وجهدهم حتىتركوها ورحلوا، ولقد أرسل نبينا � سرايا في مهمات عسكرية، فمنها ما أبيد ولم يرجعمنها أحد! ومنها ما أبيد ولم يرجع منها سوى القائد وحده!! فإذا كان تقدير البشروعملهم قد مسَّ الخطأ فيه خير البشر وأولاهم بالعصمة، فكيف بمن هم دونه؟!

ولقد خاض جيش الصحابة بعد وفاة النبيفتوحا، فوقعت فيهم الهزيمة أحيانا، واستعصت عليهم المدن أحيانا، وانقلبت عليهم مدنبعد فتحها أحيانا.. فلو كان يشترط لقرار الجهاد التيقن من النصر والظفر لما قامللجهاد أحد!

وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة تعز علىالحصر، يطول تتبعها، حول مدن صمدت أمام التتار وأمام الصليبيين وأمام القشتاليينوغيرهم، واستبسلت وقاتلت وكافحت ثم سقطت، فلم يكن جهادهم هذا عيبا ولا عبثا ولاخطئا.. بل كانوا أبطالا وخلدوا في ذاكرة الأمة أبطالا، وضربوا بأنفسهم المثلوالقدوة لمن في زمانهم ولمن جاء بعدهم.

وقد تكرر في تاريخنا الحديث وفي زمانناالمعاصر هذا انتهاء حركات إسلامية مجاهدة دون أن تحقق أهدافها في النصر والتمكين،فمنهم: عبد القادر الجزائري وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وحسن البنا وسيد قطبوأمين الحسيني وغيرهم كثير.. فإن أمتنا التي لم تكف عن المقاومة، لم يتحقق فيهاالنصر والتمكين في هذا الزمان المعاصر إلا مرات معدودة، لشدة ما نحن فيه منالاستضعاف ولعظيم الفارق بيننا وبين عدونا في القوة، ولكثرة ما فينا من الخائنينوالمتخاذلين، ولعيوب أخرى ذاتية أيضا..

والقصدُ أن مرارة النتائج وقسوتها لاتبطل الأصل، فهذا الذي وقع كله لا يجعل الطريق خطأ ولا يجعل هؤلاء مخطئين، بل لقدأنزلت الأمةُ هؤلاء جميعا -وهم مهزومين، لم يبلغوا التمكين- منزلة الأبطال والكبارالذين مهدوا الطريق أو وضعوا لبنات في البناء!

فلو قد تحقق المخوف وقُضِي علىالمقاومة في غزة، فلن يكون هذا خطأ في الطريق وفي الجهاد.. فإن غاية ذلك أن يكونخطأ في التفاصيل والتقديرات، وليس هذا هو الخطأ الأعظم.. إنما الخطأ الأعظم أمرآخر أحدثك عنه بعد قليل!!

الذي أريد قوله الآن وهنا: أنه، وإنكان قرار طوفان الأقصى قرار استشهاد جماعي، فكم سبقهم إلى ذلك مجاهدون صالحون، ماكانوا يملكون إلا الصمود والصبر والدفع والدفاع، حتى أعذروا إلى ربهم وبذلوا أقصىجهدهم، ثم مضوا شهداء مخلدين، وبقي ذكرهم في التاريخ مخلدا!

(4)

أما الخطأ الأعظم حقا، بل الخطيئةالعظمى صدقا، فهو هذا التخلي وهذا الخذلان، بل هذه الخيانة لله ورسوله والمؤمنين.

فلو قد اتفقنا –جدل� وتنزلا- أن قيادةالمقاومة أخطأت بقرار الطوفان، فإن خطأهم في التقدير والتفاصيل لا يرفع عن الأمةوحكامها وجيوشها وأجهزة أمنها ومخابراتها وإعلامها واجب الجهاد والمساندة والدعموالنصرة لإخوانهم المذبوحين المضطهدين وإن أخطؤوا!

هذا هو الخطأ الذي ينحرف المتكلمون عنهولا يريدون الخوض فيه لأن الخوض فيه ذو تكاليف وأثمان.. فيهربون من تكاليف قولالحق في أصحاب الخطايا والخيانة لينهشوا بألسنتهم من بذل غاية جهده ثم أخطأ فيالتفاصيل وفي التقدير!

المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذلهولا يُسلمه!

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وكانصادقا في الحديث عن الأخطاء وتوزيع المسؤوليات، فأوجب الواجب وأولى الأولويات أنيشير إلى هؤلاء الذين خانوا الله ورسوله والمؤمنين، وأسلموا أهل غزة وفلسطينليُذبحوا، لا بل عاونوا على ذبحهم، بحصارهم، وبإمداد عدوهم بالسلاح والمؤن، وبقهرشعوبهم ألا تنهض لنصرة غزة!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليضرببسهم في قلب الخيانة، لا أن يوجه سهامه إلى قلب المجاهد الذي وقع منه الخطأ!

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلخيرا أو ليصمت!

(5)

وأخيرا.. هل أخطأ المجاهدون حقا أم كانتقديرهم صوابا؟

والجواب: لست أدري.. إنه ما من أحديملك جوابا شافيا على هذا غيرُ الذين اتخذوا هذا القرار، وبعضهم الآن شهيد عندربه..

لكنني أدري أمورًا أخرى قد تغيب عنحساب الذين يتحدثون عن المكاسب والخسائر.

اعلم أولا أن الشعوب، سائر الشعوب، تبعلقادتها.. فالقادة هم الذين يقدرون مصالحها وخسائرها، فيتخذون قرار الحرب وقرارالسلم دون عودة ولا استفتاء لشعوبهم.. فمن عجيب ما نحن فيه أننا ابْتُلينا بمن كانيريد من يحيى السنوار أن يستفتي أهل غزة قبل أن يقدم على قرار الطوفان!! يريد منهبذلك أن يكون أعظم ديمقراطية من تشرشل وأيزنهاور وبلير وبوش وغيرهم من قيادة الغربالديمقراطي (!!) الذين يخوضون الحروب ويسوقون شعوبهم إليها!

ما عرف التاريخ قوما يستفتيهم قائدهمفي قرار خوض الحرب قبل أن يفعلها، وإنما الذي كان ويكون وسيكون إلى يوم القيامة أنهذا القائد يقدر أن المصلحة في خوض الحرب فيحمل شعبه إليها، فإن أصاب وفاز سعدواجميعا، وإن أخفق وغُلِب دفعوا الثمن جميعا!

غير أن الذي أريد لفت الأنظار إليه هناأن حساب المصالح والمفاسد لا يكون مقصورا على لحظة الحاضر الواقع الآن، بل هو حسابيستدعي تقدير المآلات والمصائر!

دعني أقرب الصورة لك: لقد كان الأقصىمهددا بالهدم، واتخذ القوم من إجراءات التقسيم الزماني والمكاني، ومن طقوسهمالتعبدية التلمودية ما يشير إلى قرب نيتهم تنفيذ هذا الهدم.

فالآن.. تخيل أن لو لم يكن طوفانالأقصى قد حصل، ثم استيقظنا يوما على بدء عملية الهدم، بعدما اتخذت إسرائيل سائراحتياطاتها واحترازاتها السياسية والعسكرية والأمنية لتتم عملية الهدم بأهونسبيل.. ماذا كنت تحب أن يكون؟!

إن إسرائيل لا تخفي طموحها في هدمالأقصى وإقامة الهيكل مكانه! بل هذا هو مشروعها الذي تريده منذ أن نشأت، وهي تسعىإليه سعيها الحثيث، ولا يؤخرها عن فعله إلا أنها تخشى هبة وغضبة شعبية تطيح بها..

ولو أنك لم تنسَ لرأيت كيف كان موكبالتطبيع سائرا، حتى أنشأت بعض الأنظمة "الديانة الإبراهيمية" وصنعت بيتالهذه الديانة الجديدة، وافتتحت اتفاقيات سمتها الإبراهيمية لتبدأ عملية تطبيع، بلعملية صهينة محمومة للعرب والمسلمين، بلغت أن يدخل بعض اليهود إلى المدينةالمنورة، وأن ينفخ بعض حاخامتهم أبواقهم عند أطلال خيبر!

أريد أن أذكرك أن مسألة هدم الأقصىوالاستعدادات الجارية لذلك سياسيا واقتصاديا وأمنيا كانت على أشدها..

فلو كنتَ في موقع قادة المقاومة فيغزة، ورأيت هذا المآل بعين التوقع القريب، لكان قرار القيام بعملية استشهاد جماعيةإنقاذا للأقصى هو المصلحة.. بل هو المصلحة العظمى! إن إيقاف هدم الأقصى وتوغلالصهاينة إلى مكة والمدينة وخيبر ثمن يستحق أن ندفع من أجله عشرات آلاف القتلىومئات آلاف الجرحى!

دعنى أقدمها لك بصياغة أخرى: لو أنكاستيقظت يوما فوجدت الأقصى قد هُدِم، ثم قيل لك: قد كانت لدى المقاومة خطة اجتياحلغلاف غزة ولكن تقديراتها كانت أن هذا الاجتياح سيكلفها عشرآت آلاف القتلى ومئاتآلاف الجرحى، فصمتت ولم تفعل.. ماذا كنت تراك تقول أو تفعل أو تشعر؟!

ألن تشعر بأنك تحب أن تضحي بنفسك رخيصةقبل أن ترى بعينيك هدم الأقصى مسرى النبي ﷺ�!

هذا الذي أريد أن ألفت النظر إليه: إنحساب المصالح والمفاسد، حساب المكاسب والخسائر، لا يقارن بين وضع غزة قبل الطوفانوبعده.. بل يقارن بين وضع المسلمين والصهاينة والأقصى بالطوفان وبغير الطوفان!..عندئذ يعتدل الحساب!

ثم أعود فأكرر: لست أدري ماذا كان فيرأس قادة المقاومة حين اتخذوا قرارهم.. غير أن الذين أرى منهم كل هذه الأساطيرالعجيبة في القتال والصمود لا بد لي أن أحترم عقولهم ونفوسهم وتقديراتهم، وإن لمأكن قد عرفتها ولا اطلعت عليها!

وأعرف قبل ذلك وبعده أنه لا نهضة للأمةإلا بمثل هذه الأثمان الكبيرة المدفوعة.. مثلما لم تنهض أي أمة إلا بفضل تضحياتأبنائها، بمن في ذلك الملحدون والكفار الذين لا يرجون الدار الآخرة.

هذا هو الحساب البعيد.. حسابٌ فيهالجهاد ذا ثمرة، ولكن الثمرة بعيدة.. بعيدة الشقة!

ثمرةلا يصلح لها من لا ينهض إلا لو كان الجهاد عرضا قريبا!!
نشر في مجلة أنصار النبي، ديسمبر 2024م
4 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on December 04, 2024 09:19
No comments have been added yet.