انهيار الباب الأول في جدار حراسة إسرائيل!
قد فاضت الأقلام، وحُقَّ لها أن تفيض،بما أنعم الله على المسلمين من إسقاط نظام بشار الأسد، وتحرير دمشق، من بعد نصفقرن مظلم كئيب كانت في سوريا ترزح في أسوأ عهودها على الإطلاق!
والحمد لله أن قيَّض لعباده من الظروفوالأحوال ما جعل هذا التحرير ممكنا على رغم قلة العدد وضعف العدة وعموم اليأسوانعدام النصير، فإن إسقاط هذا النظام آية من آيات الله، وما كان لأحد أن يتوقعسقوطه بهذه السهولة ولا بهذه السرعة! لكأنما كان سحابا وانقشع! أو سرابا يحسبهالظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا!
إن أمام القوم تحديات عديدة، نسأل اللهأن يوفقهم فيها ويهديهم إلى الرشد فيها، لكن العقبة الكأداء قد انهارت، وما بعدهاأيسر منها إن شاء الله!
وأهم ما في هذا الفتح ليس ما يتعلقبأهل سوريا وحدهم، بل ما يتعلق بالشام وبمصير المنطقة كلها.. ولقد رأى الجميع كيفسرت صعقة كهربية في سائر الإقليم العربي الإسلامي، بل وفي سائر الدنيا، فإن امتلاكالمسلمين لأمرهم في دمشق هو بمثابة قنبلة نووية في قلب النظام العالمي القائمالآن! وما هو بالأمر الذي يُسْمَح به مهما كانت التكاليف!
وما من شكٍّ عندي في أن الأمريكانوالغربيين يحاولون اختبار الوضع، واختيار البدائل، مثلما سمحوا لمحمد مرسي بأن يصلإلى رئاسة مصر وهم يظنون ويُقَدِّرون أنهم يستطيعون به إدارة الأمر على ما يحبونويرغبون، فلما كانت آثار هذا عظيمة لا تحتمل ذهبوا إلى الانقلاب العسكري عليهوتدمير الفرصة التي سبق أن سمحوا بها.
وإني سأقص عليك مختصر القصة، فإن كنت –أخيالسور�- لا تجد الوقت أو كنتَ ملولا فاذهب مباشرة إلى آخر قسم في المقال، ففيهالخلاصة.
(1)
لم يكن الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمهالله جهاديا، ولا كان في خاطره أن يقاتل الأمريكان والإسرائيليين، بل لقد ظنَّ أنتقديم الوجه الهادئ العملي التصالحي والحفاظ على مصالح هؤلاء الغربيين قد يمنحهالفرصة ليتمكن من البلاد تمكنا هادئا متدرجا، ثم يخرج من هذا التمكن بعد ذلك إلىتغيير الأوضاع!
وما عندي من المعلومات يؤكد أنالأمريكان كانوا يقبلون بهذا، لا حبا في محمد مرسي ولكن لأن هذا يلتقي مع خطة أخرىرغبوا في تنفيذها، تلك الخطة هي: أن يأتي الإسلاميون بالانتخابات النزيهة دون أنيمتلكوا حقيقة السلطة ومفاتيحها، فيعانون هم في الحكم ويعاني الناس من فشلهم فيهوضعف قدرتهم على إدارته، مع التهييج الإعلامي المستمر، والتفزيع الطائفي للأقلياتوأصحاب المصالح، والتحكم الغربي عمليا في مراكز القوة العسكرية والأمنيةوالمالية.. فيكون الرئيس في أحسن أحواله كرئيس البلدية، ويكون أقصى ما يستطيعإنجازه تحسين أحوال الطرق وتنظيم الخدمات المحلية كتوزيع الخبز والغذاء وتحسينأحوال الصحة والصرف الصحي ونحو هذه الأمور! وهذا كله لن يعني شيئا في ظل القصفالإعلامي المتواصل الذي يندب ويصرخ ويشكو من أن هذا ليس كافيا بل ليس شيئا!
فتكون النتيجة النهائية أن تأتيالانتخابات القادمة النزيهة لتُسْقِط الإسلاميين باختيار الشعب وإرادته، فتكونضربة معنوية قاصمة للإسلاميين في أنفسهم وفي أفكارهم، كما تكون ضربة قوية لأفكارالناس ليس فقط في صلاحية الإسلاميين للحكم، بل في صلاحية الإسلام للحياة!
كان يمكن لهذه الخطة أن تسير جيدا: إنأربع سنوات يراهن فيها الأمريكان على هذا المسار، هي ذاتها السنوات الأربعة التييودّ مرسي والإخوان أن تسلم لهم؛ فالإخوان مرسي لا يريدون إلا الفرصة والوقت وهميراهنون أن تمكنهم من تحسين هذه الأوضاع سيعني التفاف الشعب حولهم، وبالشعب وبمنينحاز لهم من رجال السلطة يمكنهم أن يتمكنوا من الحكم وأن يصلحوا الأحوال تدريجياوصولا إلى الغايات الكبيرة المنشودة: بداية من تحرير مصر وامتلاك قرارها وحتىتحرير الأقصى!
فإذا وقع اتفاق الإخوان والأمريكان،كلٌّ وفق رؤيته ومصالحه، على شيء.. فلماذا تعطل هذا الاتفاق؟ ولماذا جرى الانقلابالعسكري في مصر؟!
هذا هو مقصود ما أريده من هذا المقال..فأعطني سمعك وقلبك وعقلك..
(2)
لم يكن أثر وصول مرسي إلى الحكم في مصرقاصرا على مصر وحدها؛ لقد كان لهذا الوضع أصداء واسعة في العالم كله، ولا سيما فيالخليج وفي إسرائيل، وفي تركيا وإيران أيضا..
إسرائيل فقدت بانهيار حسني مبارك كنزهاالاسترايتيجي –والوص� للوزير الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر- وإن آثار الضعفوالتفكك الذي عانى منه الجهاز الأمني والعسكري وفَّر فرصة هائلة لنمو المقاومةالإسلامية في فلسطين، لا سيما في غزة التي صارت تأتيها أكداس السلاح، لقد انتعشتهريب السلاح كما وكيفا عبر المسار المصري الذي ضعفت فيه قبضة الجيش والشرطة،وصارت قوة حماس تتضخم في غزة!
وأما الخليج، تلك الممالك التي ترسخفيها الحكم الملكي والأميري، والذي يعامل الناس عمليا كعبيد لهم المأكل والمأوىولنا فيهم القرار والسلطان، فقد أصيب بصاعقة حقيقية حين نجحت الثورة المصرية، إذكيف لرئيس عتيق أن يسقط بعد ثلاثين سنة بهذه السهولة، ثمانية عشر يوما فحسب!! لقدأنعش هذا الآمال المدفونة للشعوب الخليجية لكي تشعر وتتنفس أن يكون لديها منالحرية والإرادة والرأي في النظام. وزاد في ذلك أن تأثير الثورة المصرية سرعان ما انتشرفي ليبيا وسوريا واليمن وبدت له بوادر لم تكتمل في البحرين والجزائر والمغرب.. لقدشعر ملوك الخليج أنهم في لحظة تشبه ما عاشه قبلهم ملوك أوروبا القديمة والوسيطة؛شعروا أنهم أمام ثورة لتحرير العبيد، وقطع رأس الملوك!! فكان لسان حالهم يقول: لئنكانت أمريكا تستطيع أن تصبر أربع سنوات تجرب فيها خطتها، فإن الوضع عندنا لا يحتملولا نستطيع أن نصبر! لقد رأوْا كيف أن بعض شعوبهم وضع كلمات الرئيس مرسي كنغماترنين لهواتفهم الجوالة!.. إن استمرار مرسي سيمثل سقوطا مؤكدا لأنظمة حكمهم!
حتى إيران وتركيا على رغم ما بينهم منالتضاد والخلاف، كلٌّ منهم رأى في مرسي فرصة عظيمة يتقوى بها جانبه ويشتد بهامحوره..
فأما تركيا فلقد كانت لحظة في غايةالندرة والعظمة للعثماني الجديد –كم� تنعته الصحافة الغربية- لكي يجد طريقا ممكناليتمدد في العالم العربي بعد مائة عام من العزلة العلمانية الأتاتوركية، فالمتفائليقول: إنه أول استرجاع تاريخ الدولة العثمانية، والمتحفظ يقول: إنه أول الطريقلتمدد الدولة التركية واتخاذها الموضع اللائق بها في خريطة القوى الإقليمية.والإخوان ومرسي من جانبهم كانوا يرحبون أشد الترحيب بالحليف التركي، الحليف القويذي الهوى الإسلامي، في منطقة ترسخ فيها الطغاة والعلمانيون وليس لهم فيها نصير.
وأما إيران، فلقد وجدت في وصول مرسيللحكم فرصة ممتازة لتمد علاقات قوية مع مصر –أكب� الدول العربية وأهمها- بعدماسقطت العقبة الكأداء المتمثلة في حسني مبارك ذي الهوى الصهيوني والأمريكي، إنهالمنحة عظيمة في هذه اللحظة وجود إسلاميين في حكم مصر مثل الإخوان المسلمين، ليسلهم عداء عقدي جذري مع الشيعة، ولهم تطلعات تحررية من الأمريكان، ولهم عداء معالصهاينة، ويعانون من قلة النصير. ومن ثَمَّ فإقامة علاقة مع هؤلاء هو كسر ضخم فيجدار الحصار المفروض على إيران، وتوسيع حضورها، بل وفيها فوق ذلك فرصة كذلك للعملالشيعي في مصر التي هي بيئة أقرب لقبول الفكرة لما لدى أهل مصر من حب لآل البيتولما في مصر من معالمهم ومشاهدهم.
السودان أيضا رأى في فوز مرسي فرصةعظيمة للخروج من حالة الحصار التي كان فيها عمر البشير، النظام الفقير الذي أجبرقبل شهور على تنفيذ التقسيم والتخلي عن جنوب السودان بعد طول تصلب ومثابرة، وماكانت له من عقدة أشد وأكبر من العقدة المصرية، فها هي قد انفتحت، ثم ها قد جاءإليها الإخوان المسلمون أنفسهم الذين هم على ذات خط فكر الحزب الحاكم في السودان.
أمورٌ أخرى يمكن قولها، ولكنها أقلأهمية.. على أن القصد الذي يجب التركيز عليه أن التجربة المصرية كانت في بعضوجوهها تجربة اتفق أصحابها واتفق الغرب على منحهم الوقت والفرصة، كلٌّ لأغراضهالمعاكسة للآخر، لكن تأثيراتها على الجوار هي التي عصفت بها!
لقد دخلت ممالك الخليج وإسرائيل علىالخط لتتحطم هذه التجربة في أسرع وقت وأقرب فرصة ومهما كان الثمن، وفي حين كانالأمريكان يتخوفون من الفوضى لو جرى الانقلاب العسكري على مرسي، فإن إسرائيلوممالك الخليج والخونة في العسكر المصري تكفلوا لهم أن يكون الانقلاب أسهل مايكون. فما ظنَّ أحدٌ منهم أن مرسي يمكن أن يتصلب في وجه الجيش، كيف ولم يفعلهامبارك العسكري ذي الثلاثين عاما في مقعد الحكم؟ فهل يفعلها الإصلاحي التدريجيالخالي من القوة والذي لم يتمكن في مقعد الحكم؟!.. وكان مرسي قد أبدى من الضعف مايجعل الانقلاب عليه فكرة تستحق التجربة، وقد خُدِع في السيسي وسُحِر به انخداعاوسحرا يجعل نتيجة الانقلاب عليه تبدو مؤكدة السهولة!
ثم حصل ما حصل مما هو معروف..
وأنا أكتب الآن من موقع شاهد العيان،فلو كان مرسي قد أبدى جرأة وقوة وإقداما مثل الذي أبداه من تصلب وثبات بعد وقوعالكارثة لكنا نكتب تاريخا آخر. ولو كانت الجماعة قد قاومت ونزلت بثقلها بعدالكارثة لكان تاريخ آخر!
(3)
الشاهد الذي أقصده الآن، والذي أتوجهبه لإخواني في الثورة السورية.. أن الأمريكان والغربيين يمكنهم أن يحاولوا تجريبالوضع الجديد واختبار الفرص المتاحة ودراسة شخصية أحمد الشرع ومصادر قوته ونقاطضعفه، وإلى أي مدى يمكن تحقيق مصالحهم في وجوده.. مع الاستعداد لتغييره في كلالأحوال، حربا أو اغتيالا أو انقلابا ممن حوله، ولكن هذا الاستعداد الغربي يحتملالتأجيل!
أما الأنظمة العربية وإسرائيل فلا تملكالوقت ولا الصبر على ذلك، وإن اشتياقها لتدمير التجربة وتحطيمها لا يتمهل، ولئنكان القوم لم يحتملوا مرسي –عل� كل ما فيه من إصلاحية، وعلى كل ما لهم من نفوذداخل الأجهزة الأمنية والعسكرية في مصر- فكيف برجل مثل أحمد الشرع، ذلك القادم منمسار جهادي سلفي، وقد حمل السلاح، وفريقه ليس فيه هذا الحضور ولا النفوذ؟!
لقد أبدت أنظمة الخليج لمرسي تقبلا،ورسمت له في دهاليز العلاقات الخلفية ابتسامات وضحكات، وكانت تطعنه من الخلف (وهذاملف لم يُعرف بعدُ أكثره)، حتى لقد رأيت بنفسي في فريق مرسي من كان مطمئنا لهمغاية الاطمئنان، وكان سعيدا لما أغرقوه به من الحفاوة، ولا يتصور أن هذا قد يكونغدرا.. أقصد القول: ليس الذي يحدث الآن مع أحمد الشرع غريبا ولا هو يعني تقبلاحقيقيا لوجوده!
إن تحرير دمشق، كما تقرؤه العواصمالسياسية العربية، هو إسقاط لأخ عريق في الطغيان والتجبر، وهو دليل على أن نجاحالثورات ممكنة رغم كل المآسي والجراح، وهذا درسٌ هائل عظيم، كم أنفقوا الملياراتوالمجهودات لإثبات عكسه، حتى صارت سوريا المثال الأبرز عليه، فكان يقال للمقهورين:"احمدوا ربكم أحسن من سوريا"!
وإن تحرير دمشق، كما تقرؤه العواصمالعالمية، هو انهيار بوابة حديدية كبرى في جدار حراسة إسرائيل، بل هو انهيار ثلثالجدار، وبقي ثلثاه: مصر والأردن!.. فكيف يكون حال قومٍ خسروا في أيامٍ بابا منثلاثة أبواب تحمي مشروعهم الأثير: إسرائيل؟!.. وكيف يكون حال إسرائيل نفسها، وهيالتي لم تخرج بعد من الصفعة المدوية التي تلقتها في غزة! غزة التي لا تملك إلاالسلاح الخفيف والمتوسط، والمحاصرة منذ سبعة عشر عاما؟!
لئن كانت نافذة غزة قد تدفق منها طوفانالأقصى، فكيف يتوقعون أن يكون التدفق الذي سيأتي من باب سوريا الكبير؟!!
أسألالله تعالى أن يتم نعمته على إخواننا في سوريا، وأن يهدي قائدهم أحمد الشرع ورجالهلما فيه السداد والرشاد والخير والهدى والفلاح، وأن يجنبهم كيد الكائدين وغدرالغادرين.