تجريد النموذج القرآني
أظنني بحاجة إلى تقديم اعتذارين بين يدي هذه المقالة، اعتذار عن الاختصار الشديد في مسائل تحتاج إلى مزيد من التفصيل، واعتذار آخر عن أسلوب الكتابة، فأصل هذه المقالة تغريدات في موقع تويتر، ثم رتبتها ووضعتها في صفحتي على الفيس بوك، وللتغريدات طريقتها في الكتابة، ولو أني أجلت نشرها إلى حين إعادة صياغتها، لصار مشروعا مؤجلا، لذلك فضلت أن أنشرها كما هي.
(1)سؤال النموذج!
من القضايا المهمة في التعامل مع القرآن الكريم.. وفي تحديد طبيعته.. هو معرفة الأسئلة التي جاء ليجيب عليها.. والأسئلة التي لم يأت للإجابة عليها .. هذا سيجنبنا تحويل القرآن إلى نص سحري أو أسطوري.. وأعتقد أن من أهم ما جاء ليجيب عنه القرآن هو النموذج الإسلامي
لنطرح السؤال ابتداء.. هل يحمل القرآن في داخله نموذجا، أم لا؟! أقصد بالنموذج وجود بنية متماسكة من الأفكار تتضح فيها الأفكار المركزية والأفكار الثانوية.. وتتضح العلاقة بين كل فكرة وأخرى.. وتتضح فيها الغايات.. وكذلك الكليات
محمد أركون (كمثال) طرح هذا التساؤل.. وقال إننا إذا حاولنا ذلك فأظن أننا سنكتشف أنه لا يمكن استخلاص نموذجا من القرآن.. وكلامه يعني أن النص القرآني واسع الدلالة جدا.. لدرجة أنه يقبل كل نموذج.. بل من الممكن أن يقبل نموذجين متضادين.. وبالطبع فإن جميع المفكرين الإسلاميين يعتقدون العكس وأن القرآن يقدم نموذجا إسلاميا.. ولكن السؤال سيكون: ما هو هذا النموذج؟ هل هو معتقد السلفية أم الأشاعرة أم المعتزلة أم غيرهم؟! بالتالي ستكون أكثر الأجوبة هي أن النموذج الإسلامي يساوي معتقدنا (نحن)
لا شك أن النص القرآني واسع الدلالة.. وبالتالي لا بد أن نتحدث عن سعة النموذج الذي سنجرده من القرآن.. ومن أهم ما يجيب عليه النموذج الأسئلة الثلاثة الكبرى (الإله، الإنسان، الوجود)، عن ماهية كل منها، وعن العلاقة بين كل أجزائها
مثلا نصر أبو زيد يعتقد أن نموذج الإنسان في اعتقاد أهل السنة يختلف كليا إلى درجة التضاد مع نموذج الإنسان عند المعتزلة.. ولست أوافقه في ذلك..
سأبين رأيي بعيدا عن مناقشة الآراء الأخرى..
أعتقد أن القرآن الكريم يحمل نموذجا بالتأكيد وهذا النموذج شديد الاتساع.. بشكل يفوق تصور كثير منا.. بل بصراحة كلما فكرت في مدى إمكانية اتساعه تصيبني الدهشة.. وأظن اتساعه يفوق حتى تصوري له الآن.. ومع ذلك فهو نموذج متماسك.. كثير من الثنائيات تستمر فترة طويلة.. ثم يكتشف الإنسان أن الثنائية كانت وهما.. وأن ما ظنه متنافرا أو ينازع بعضه بعضا ظهر منسجما بوجه آخر.. والوعي هو ما يبين وهم الثنائيات.. وكثير من الأفكار التي تبدو متناقضة في تراثنا.. والتي لازلنا نراها الآن كذلك.. أظننا يوما ما سنكتشف انسجامها
أظن أن النموذج الإسلامي واسع لدرجة يمكننا تصوره نموذجا ذا نماذج.. وأن الصراط المستقيم يحمل في داخله صراطات مستقيمة.. سعة النص القرآني لأجل استيعاب نماذج وتصورات بشرية متعددة تجاه الوجود والإنسان.. وهو بهذا الاتساع يفسح المجال للفكر البشري وللتراكم المعرفي بالوجود.. ذلك أن النص القرآني لا يدخل في التفاصيل.. وإنما نحن من نحاول استنطاقه فيها.. وبطريقة نفعية في كثير من الأحيان
لو أخرجت نفسك من دائرة معتقدك.. وحاولت أن تقرأ النص من بعيد.. وتنظر هل يحتمل النص مختلف التصورات أم لا.. أظن النتيجة ستكون مدهشة.. وكما قلت فأنا أراهن على (الوعي) أنه سيكشف لنا وهم التناقض بين كثير من التصورات في التراث الإسلامي والتي تفاصلنا عليها كثيرا
أتمنى تفسيرا للقرآن يبين اتساعه.. ومدى هامش الحركة المتاحة فيه.. ومساحة التأويل الممكنة.. بدل الحديث عن الراجح والمرجوح.. وأتمنى فكرا إسلاميا يحدثنا عن سعة التصورات.. ويفسح المجال للفكر الإنساني.. بدل الحديث عن الفتاوى التفصيلية
إن فهمنا للنموذج الإسلامي هو فهم نسبي للمطلق.. فهم بشري مثقل بثقافة عصر وهمومه وأسئلته.. وهو جزء من النموذج لا كل النموذج
سأحاول وضع تعريف أولي للنموذج.. وهو مستفاد من كلام المسيري .. النموذج هو :الأفكار المحورية المجردة من النص القرآني، التي تمنحه وحدته وتربط بين عناصره، والتي قد لا تكون ظاهرة ولكنها كامنة في كل أجزائه
(2) العثور على الفكرة
من الأسئلة المتبادرة إلى الذهن عند الحديث عن كثير من الأفكار المعاصرة.. هو غيابها في القرآن كريم.. بالطريقة التي نطرحها الآن.. مثلا مفهوم (الحرية) أخذت اهتماما كبيرا من المفكرين.. ويقول ابن عاشور ومثله الريسوني أنه من الممكن أن تكون من المقاصد الكبرى للشريعة أو حتى سادس الكليات الخمس.. ولكن حين نتصفح القرآن لا نجد الاهتمام بالحرية كقيمة بهذا الوضوح.. ولنأخذ أيضا موضوع الإنسان.. مركزيته وأهميته وحقوقه.. لا نجده في القرآن بهذه الطريقة.. وهو سؤال يتكرر..
أظن أن المسألة كالتالي: لكل عصر وكل ثقافة أسلوبها في عرض الأفكار.. طريقة تركيب الفكرة تختلف من زمن إلى آخر.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالإنسان يعبر عن القيم بحسب حاجته إليها..فالحديث المتكرر عن قيمة (الحرية مثلا) تدل على فقدها والحاجة إليها.. فحين تجد الصحافة في بلد ما تتحدث عن أهمية القانون فهو إشارة إلى فقدها وحاجة الناس إليها في تلك البلد.. وربما يكون الحديث المتكرر عن القيمة دلالة على الاعتزاز والتمركز حولها
والقرآن كلام الله.. وللقرآن أسلوبه الخاص في تركيب الأفكار.. وليس صحيحا أن نحاول البحث عن الفكرة في القرآن بحسب طريقتنا في تركيب الأفكار.. بمعنى أن النص الديني هو نص يستوعب المنظومة القيمية بطريقته وليس بطريقتنا.. فالحقوقيون لهم ترتيبهم في تنظيم الفلسفة الحقوقية.. والفلاسفة لهم ترتيبهم في ترتيب الأسئلة الكبرى.. وأكبر خطأ فيما أظن هو محاولة الأسلمة.. أن نقول إن النص الديني سبق إلى الحديث عن هذا أو ذاك.. النص الديني مستوى مختلف عن مستوى مدونات حقوق الإنسان مثلا.. لهذا مجاله ولهذا مجاله
أعود للموضوع.. حين أستشعر قيمة (الحرية) مثلا.. أو (مركزية الإنسان).. وأريد البحث عنها في القرآن.. فماذا أفعل؟
بداية لن أجدها بالطريقة المركبة الفلسفية التي في ذهني.. فلابد أن لا أبحث عنها بهذه الطريقة.. فللقرآن أسلوبه الخاص كما سبق القرآن نص متسع المعنى، وهو يحتوي (نموذجا) متماسكا، يجمع بين الاتساع الشديد والانتظام، والبعد عن الفوضى والتناقض.. بالتالي إذا كنت أقول مثلا إن الإنسان مركزي في الفكر الإسلامي.. فلا بد أن يؤيد القرآن ذلك وإلا كان ادعائي خطأ
حين أقرأ القرآن سأجد (الإنسان) مبثوثا وكامنا في ثناياه.. ودوري هو البحث عن مفهوم (الإنسان) في ثنايا القرآن.. مثلا من هو الإنسان في القصة القرآنية؟ أين الإنسان في حوار موسى وفرعون.. أين الإنسان في قصة خلق آدم وحوار الملائكة عنه؟
القصة القرآنية يكمن فيها موضوع الإنسان بشكل واضح.. وحتى في آيات الأحكام.. من المهم أن أستخلص مفهوم الإنسان منها.. و حتى في آيات العقيدة.. في سورة الإخلاص مثلا.. هناك مفهوم كامن للإنسان.. من هنا أستطيع معرفة ماهية (الإنسان) في القرآن وأستطيع تحديد هل هو مركزي كما ظننت.. أو أنني كنت مخطئا.. ومثلها الكلام عن الحرية أو المرأة أو العلاقة بالآخر� الخ
قد يكون هناك المفهوم مركزي في الدين.. لكن النص لم يعبر عنه بشكل مباشر.. لأن تركيب الأفكار في القرآن يختلف عن طريقتنا في تركيبه.. وليس أضر على القرآن ولا أكثر نفعية من الاستدلال المجزأ للآيات.. أن تقتطع من سياقها ويستدل بها على نفي فكرة أو إثباتها
(3)ثنائية العقل والنص.. حقيقة أم وهم؟!
من المسائل التي تطرح دائما ونسمع عنها.. قضية العقل والنص.. أيهما نقدم على الآخر! هل نقدم النص أم العقل؟.. كثير من الأحيان نسمع رأيا.. فيقال إنه رأي عقلي.. أو هؤلاء قوم عقليون.. أو متأثرون بالمعتزلة.. يقال إن المعتزلة قدموا العقل على النص.. وأهل السنة قدموا النص على العقل
أعتقد أن المسألة ليست بهذه الصورة.. وطرحها بهذا الشكل يخفي كثيرا من المخادعات.. العلاقة بين العقل والنص ليست علاقة حدية.. بمعنى إما هذا أولا أو ذاك
سأطرح رأيي بعيدا عن ذكر الآراء والخلافات..
يولد الإنسان ويبدأ احتكاكه بالكون.. يرى ويسمع.. يعرف أمه وأبيه وبيته.. ثم عائلته الأكبر.. ثم مجتمعه.. يتشكل العقل في (ثقافة) محددة لها معالمها.. ونموذجها.. تختلط بالفطرة التي ولد عليها.. حتى يصبح عسيرا عليه التمييز بينها
إذا أردنا أن نعود للثقافة ونكتشف كيفية تشكلها.. سنجد أن (الخطابات) و (النصوص) ساهمت بشكل مباشر في تكوينها.. وإذا أدرنا أن نرجع إلى الوراء قليلا سنجد أن الثقافات تتشكل في تفاعل مستمر بين الكلمة والمعنى.. بين الفكرة التي تتشكل داخل الإنسان.. والكلمة التي تخرج منه ليعبر بها عما بداخله فيساهم في تكوين ثقافة مجتمعه.. هكذا نحن.. نولد في ثقافة ما.. ونتفاعل معها.. ونكرسها وننقدها.. ونعيد إنتاجها.. ونساهم في تغييرها
سأترك لك مساحة واسعة من الخيال.. تفكر من خلالها كيف تتشكل الثقافات.. كم يكون الإنسان أسيرا لها.. ومنتجا في الوقت نفسه.. كم يكون الإنسان فاعلا في التاريخ.. محركا له.. ومقيدا به.. ومحدود الفاعلية
لنعد إلى موضوعنا.. يتشكل عقل الإنسان وفق ثقافته.. يتشكل نموذجه المعرفي.. وحين يتوجه إلى القرآن يتوجه وفق معارفه وأفكاره.. لا يأتي إليه خالي الوفاض.. أبيض الصفحة.. محايدا كما يدعي.. وإنما محمل ومثقل بنموذجه.. وبهمومه.. وبأسئلته.. وبأجوبته الافتراضية
على قدر مكانة النص في نفس القارئ.. يساهم النص في إعادة إنتاج أفكار القارئ.. فنصه المقدس هو المؤثر الأقوى بلا شك.. لكنه مع ذلك لا يستطيع نفي أفكاره السابقة.. وإعادة بناء نموذج جديد تماما.. إنما يساهم النص في إعادة إنتاج نموذج جديد معدل
يقرأ العقل النص.. فيتكون نموذجه الجديد.. ثم ينطلق بهذا النموذج إلى الواقع.. فيصدقه الواقع أو يخطئه.. فيعود إلى نصه ليعيد القراءة فيتكون نموذج آخر.. وهكذا
هي عملية تفاعلية لا تتوقف.. عناصرها الإنسان والثقافة والنص.. كلما ازدادات خبرة الإنسان.. ازدات قدرته على قراءة أفضل للقرآن الكريم
لا يطرح النص نفسه على الأرض.. ولا ينقش واقعه على المجتمع.. إنما جاء النص ليقرأه الإنسان.. ليتفاعل مع عقل الإنسان
حين تقرأ نصا من النصوص وتستقرئ أفكاره.. تحدد اتجاهاته الرئيسية.. ومقاصده.. وتتعرف على روحه.. فتعيش في منظومته..ثم قد تقع عينك على جملة تتصادم مع هذه الروح.. فتقول إن هذا المعنى الظاهر للجملة معنى مستحيل.. لأنه يتصادم مع روح النص كله.. فيأتي من يتهمك بتقديم العقل على النص.. فتقول إنه ليس تقديما للعقل.. ولكنه تقديم لروح النص التي تبينت من خلال الاستقراء على المعنى الظاهري الذي يظهر من هذه الجملة فقط.. خصوصا أن اللغة العربية تحتمل معان أخرى تتفق مع روح النصوص
أليس التعارض بين العقل والنص في كثير من أشكاله تعارض مفتعل!
حين تأتي النصوص الشرعية لتؤكد على مقصد العدل.. أو حرية الإنسان.. أو نبذ العنصرية.. في كل نصوصها المركزية الواضحة ثم يأتي نص في ظاهره تعارض مع هذه الروح وهذا الاتجاه وهذه المقاصد.. ألا يكون في الفهم الظاهري للجملة مشكلة!
لا يمكن أن يقول أحد إن العقل يقدم على النص مطلقا.. ولكن لكل نص.. أفكاره المركزية والثانوية.. ولابد من إعادة الأفكار الثانوية للمركزية.. بعبارة أخرى.. القرآن فيه المحكم والمتشابه.. ولابد من إعادة المتشابه إلى المحكم.. ليتسق النص.. ولا يمكن أن يحدد ذلك إلا بالاستقراء الكامل
إن ألفاظ القرآن الكريم التي تعبر عن آلية التعامل مع القرآن الكريم إنما تعبر عن العقل.. (التدبر) الذي هو الوصول إلى دبر الشيء..أي معناه الأخير.. فعلى القارئ أن يسعى للوصول إلى أقصى ما يستطيع من معنى.. ولا يكون ذلك إلا بالعقل
التذكر.. التفكر.. القراءة.. كلها آليات يتسخدمها العقل في التعامل مع القرآن الكريم.. لذلك لم يفسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا جزءا يسيرا من القرآن.. وترك هذا النص العربي ليتفكر فيه الناس.
مصطفى الحسن's Blog
- مصطفى الحسن's profile
- 181 followers
