ŷ

مصطفى الحسن's Blog, page 3

August 15, 2012

المستمتعون بصمتهم

مصطلح (الأغلبية الصامتة) يتم تداوله في المجال السياسي، وهو يعني: الأغلبية العامة من الناس فى بلد أو مجموعة ما التى لا تعبر عن آرائها علانية، ويقال: إن أول استعمال لها كان في المجال الأدبي في إلياذة هوميروس، حين وصف القتلى في معركة طروادة بالأغلبية الصامتة، فهؤلاء القتلى يمثلون الأغلبية أمام من بقي من الأحياء، لكنهم بسبب صمتهم لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، وأصبح بإمكان الجنود الأحياء أن يعبروا عنهم، وأن يتحدثوا باسمهم، فيزعمون أنهم كانوا يقولون كذا ويعتقدون كذا، ويحلمون بكذا، وأنهم يؤيدون هذا، ويرفضون ذاك، في الوقت الذي لم يعد بإمكان الموتي تصديق ما يقال باسمهم ولا تكذيبه.


الأغلبية الصامتة موجودة في الدول الديمقراطية، فمهما بلغت الحريات في دولة ما، تجد أناسا لا يرغبون في إبداء رأيهم في الشأن العام، يكتفون بدوائرهم الخاصة، وربما يشاركون بفعالية في التصويت، لكنهم لا يعلنون عن آرائهم صراحة، وتتفاقم المشكلة، وتزداد نسبة هذه الأغلبية في الدول الشمولية، ومن أهم أسباب تفاقمها الخوف من التبعات الوخيمة لإبداء الرأي، وعدم وجود منابر حقيقية يمكن من خلالها التعبير عن الرأي في الشأن العام، فعادة تعاني هذه الدول مشكلة حقيقية في الحريات، وتفتقد لوجود مجتمع مدني حقيقي، وبالتالي تفتقد للمنابر والقنوات الشرعية والصحية لإبداء الرأي، وحتى إن وجدت تكون مفرغة من مضمونها.


في الدول الشمولية تتحدث الدولة باسم الأغلبية الصامتة، وتزعم أنها توافقها في آرائها وتوجهاتها، ولا يمكن لأحد أن ينفي ذلك، لأنه لا توجد طريقة لنفي ذلك في الواقع، فالإعلام والمنابر الدينية والثقافية كلها تحت سيطرة النخبة المتحالفة مع السلطة، فهناك طريق واحد، وفكرة واحدة، وحقيقة واحدة، والجميع يعتقد أن الجميع يؤمن بها، ربما تغيرت هذه المعادلة مع وجود الانترنت، خصوصا مع ظهور الإعلام الاجتماعي التفاعلي، فمواقع مثل ( تويتر ) و (فيس بوك) و(يوتيوب) كسرت احتكار هذه الدول، وأصبحت التيارات الأخرى المهمشة قادرة على إيصال رأيها وصوتها إلى تلك الأغلبية، بل صارت قادرة على مشاركتها الادعاء أن الأغلبية الصامتة ليست معكم وإنما معنا.

على أرض الواقع هناك خطاب تحميه السلطة، وهناك خطابات أخرى تبدو في خندق المقاومة، لكن في موقع تويتر ـ مثلا ـ كل يأتي وقد خلع مشلحه، وتخلى عن سلطته، ليقف متسلحا بسلاح واحد وهي الحروف المائة وأربعين، ربما لا يبدو كلامي دقيقا جدا، فلاتزال السلطة والخوف من تبعات الكلمة تلاحق الناس في تلك المواقع، لكن على الأقل ثمة فرق كبير بين الواقع ومنابر الانترنت.

بإمكانك أن تلاحظ المعركة الدائرة في الانترنت حول الحديث باسم الأغلبية الصامتة، معركة ( الفولورز ) مثلا في موقع تويتر، فرح الأتباع بوصول صاحبهم إلى رقم معين، وقلق الآخرين من هذا الرقم والتشكيك في مصداقيته، وعدد المشاهدات لمقاطع (اليوتيوب)، وعدد الدخول إلى موقع ما، كلها رسائل توصلها التيارات لبعضها أننا الأكثر حظوة وقبولا لدى الأغلبية الصامتة، وهي كذلك رسائل إلى السياسي، أننا التيار الأكثر تواجدا والأقوى حضورا في تلك الأغلبية، بل أحيانا تكون رسائل للخارج، أننا الأكثر فاعلية في مجتمعنا، وتبقى الأغلبية الصامتة تشاهد ولا تخرج عن صمتها، لا تصدق ولا تكذب.

بإمكان كل تيار أن يطلق الأرقام والنسب التي يرغب فيها. من الممكن أن نقول: إن المجتمع السعودي يرفض مشاركة المرأة في الأولمبياد، وبإمكاننا أن نقول: إنه يؤيد في أغلبيته مشاركتها، وبإمكاننا أن ندعي أن المجتمع السعودي مجتمع متدين محافظ، وبإمكاننا الادعاء أنه مجتمع ليبرالي منفصل عن خطاب المؤسسة الدينية، والواقع أننا في مجتمع تغيب عنه الأرقام الصادقة، بمعنى أننا مجتمع يجهل نفسه، ولا يعرف مزاجه، لذلك يتفاجأ من ردات فعل أبنائه تجاه بعض القضايا، والعجيب أن هذه الأغلبية الصامتة التي يتحدث باسمها الكثيرون، لا تخرج عن صمتها لتصدق هذا أو تكذب ذاك، وإنما يصدر التصديق والنفي من التيارات نفسها، ولا سبيل إلى معرفة مزاجها وتقلباتها وهواها، إلا من خلال استفتاء عام، أو دراسات إحصائية علمية مستمرة ومعلنة، وهو ما نفتقده.

ستبقى الأغلبية الصامتة في صمتها، لأنها موجودة حتى في الدول الديمقراطية، لكنها في الدول الشمولية أصابها العجز والسلبية فوق صمتها، ربما بسبب اليأس من جدوى الكلمة، أو لعدم إدراك أهميتها، والإنجاز الحقيقي هو في إخراج هذه الأغلبية من دائرتها الخاصة، إلى الاهتمام بمجتمعها، أن تكون فاعلة ومشاركة، حتى لو كانت صامتة.



1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on August 15, 2012 06:07

August 7, 2012

مقولات التفسير

أظنني بحاجة إلى تقديم اعتذارين بين يدي هذه المقالة، اعتذار عن الاختصار الشديد في مسائل تحتاج إلى مزيد من التفصيل، واعتذار آخر عن أسلوب الكتابة، فأصل هذه المقالة تغريدات في موقع تويتر، ثم رتبتها ووضعتها في صفحتي على الفيس بوك، وللتغريدات طريقتها في الكتابة، ولو أني أجلت نشرها إلى حين إعادة صياغتها، لصار مشروعا مؤجلا، لذلك فضلت أن أنشرها كما هي.


(1)تفسير القرآن بالقرآن.


من المفيد أن نناقش بعض المقولات المشهورة في التفسير.. خصوصا تلك التي يتم تداولها كثيرا.. من هذه المقولات مقولة ابن تيمية وغيره أن أحسن طرق التفسير: تفسير القرآن بالقرآن.. وهذه العبارة تحتاج إلى توضيح.. ما هو المقصود بتفسير القرآن بالقرآن؟


إذا كان المقصود هو الاستقراء، بمعنى أن القرآن كتاب بين يدينا، لكل سورة فيه بداية ونهاية، ولكل فكرة فيه معالجة خاصة بها، فلو أخذنا مثلا موضوع (الجهاد)، فباستقراء القرآنالكريم ودراسة موضوع الجهاد فيه، نستطيع أن نستخلص معالم ومعنى الجهاد في القرآن، وبالتالي فعند تفسير أي آية لا بد من استحضار هذا المعنى العام، وهو ما يسمى (الاستقراء) أو اكتشاف النظام الداخلي للنص، كيف يستعمل اللفظة؟ وما الذي يقصده بهذه التراكيب؟ .. الخ، الاستقراء واكتشاف النظام الداخلي للنص هو أساس من أسس التأويل.. ولا يمكن أن يفسر نص من النصوص باجتزائه من سياقه


لكن إذا كان المقصود من تفسير القرآن بالقرآن هو أننا حين نأتي إلى آية تتحدث عن الصبر مثلا، فنورد في تفسيرها كل الآيات التي تتحدث عن الصبر وبالتالي نقول إننا فسرنا القرآن بالقرآن، أظن أن هذه الطريقة تلغي خصوصية سياق كل آية، فالآية التي تورد الصبر مجملا، هي تريده كذلك لأنه أنسب إلى سياقها.. وحين يأتي المفسر ويتوسع في مفهوم الصبر الذي أجملته الآية هو في الواقع يتعدى على أسلوب الآية نفسها.. وهو يؤدي إلى أمر أخطر، وهو أننا بهذه الطريقة من الممكن أن نستغني عن الآيات المجملة بالآيات المفصلة.. وهذا موجود في بعض كتب التفسير التي تتخذ أسلوب تفسير القرآن بالقرآن.. وأظنه غير صحيح بهذا المعنى.. بل هو صحيح بالمعنى السابق الذي ذكرته


(2) تفسير القرآن بالسنة


هذه المسألة بحاجة إلى تفصيل من ناحية الفرق بين طبيعة النص القرآني وطبيعة النص النبوي.. القرآن الكريم (كتاب) وهو وصف نفسه كذلك من بداية التنزيل.. وهذا يعني أن له ترتيبا.. وله سياق.. وله أول وله آخر.. فبين يدي كتاب متكامل.. أستطيع من قراءته استخراج تصور متكامل في موضوع ما.. فقد كان القرآن ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام.. ويقول ضعوا هذه الآية في الموضع الفلاني.. فالترتيب مقصود.. وبالتالي وصف القرآن بالكتاب له معنى مهم


السنة النبوية القولية هي ما رواه الصحابة رضي الله عنهم مما سمعوه منه.. وقد رووا ما تدعو الحاجة إلى روايته.. أي لم يرووا كل ما قاله.. وهذا مقرر عند العلماء.. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يجالس الناس ويتحدث معهم في شتى شؤون الحياة.. وما رواه الصحابي هو جملة أو عبارة من مجموع كلامه في موقف ما.. وبالتالي فنحن أمام (أقوال) وليس (كتاب).. هذا فرق رئيسي في طبيعة النصين.


حين نتحدث عن المنظومة الإسلامية أو النموذج الإسلامية.. وأقصد به الإجابة عن الأسئلة الكبرى.. عن الإنسان والإله والوجود.. عن مفهوم الحياة والموت.. والإنسان والدين.. والمرأة والرجل.. والاستخلاف وغير ذلك.. هذه المفاهيم لا بد أن تكون متكاملة في القرآن.. ولا بد أن تكون السنة منسجمة فيها مع القرآن.. والقرآن هو الحاكم على السنة..


يتحدث الأصوليون عن مصادر التشريع.. وهل القرآن والسنة مصدرا واحدا! أم القرآن أولا والسنة ثانيا! وأنا أتحدث هنا عن طبيعة النصين.. ومن هذا المنظور –أ� طبيعة النصين- لا بد أن يكون القرآن أولا.. والسنة تابعة له..


الأفكار المركزية في القرآن لا بد أن تكون متكاملة.. وهذا يختلف عن تفسير الجزئيات.. كتفسير حكم شرعي.. فتأتي السنة بتوضحيه مثل الزكاة


أما عن تفسير القرآن بالسنة.. فبداية ليس النقاش حول حجية السنة.. فالسنة وحي ودين.. ولكن النقاش حول الكيفية.. فإذا كان المقصود من تفسير القرآن بالسنة أننا حين نأتي لتفسير آية تتعلق بالوحي مثلا.. نورد تحتها في التفسير كل الأحاديث المتعلقة بالوحي.. أظن أن هذا ليس تفسيرا.. جمع الأحاديث المتعلقة بموضوع ما في تفسير الآية لا يعد تفسيرا.. بل هو في الحقيقة خروج عن التفسير وابتعاد عن النص القرآني.. فحين تتحدث الآية مثلا عن الصدقة.. فللآية سياقها وتركيبها الخاص بها.. وبالتالي لها معناها الخاص.. وإيقاعها الخاص.. ونحن حين نورد تحتها الأحاديث المتعلقة بالصدقة وأنواعها وآدابها فنحن نبتعد عن روح النص.. التفسير هو أن تبقى في روح النص وسياقه ونظامه الداخلي


تفسير القرآن بالسنة هو الأحاديث التي تحدثت بشكل مباشر في تفسير آية ما.. مثل تفسير الظلم بالشرك في آية (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم).. ولو جمعنا الأحاديث الصحيحة التي تفسر الآيات بشكل مباشر.. سنجدها محدودة جدا جدا.. وبالتي فكل المعركة التي أقيمت حول تفسير القرآن بالسنة في الواقع معركة ليس لها مؤدى واقعي بهذا المعنى.. والواقع أن كثيرا من الأمور النظرية لا يوجد لها واقع حين نتعامل بشكل مباشر مع القرآن


(3) تفسير الصحابة


سأبين أولا المعطيات.. الصحابة هم الجيل المعاصر للتنزيل.. فمن البديهي أن يكونوا أعلم الأجيال بلغة القرآن بسليقتهم.. والصحابة عاصروا القرآن في حالته الشفهية.. وفي الظروف أو السياقات التي نزل بها.. السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها.. هذه عناصر قوة لفهمهم..


من ناحية أخرى فالنص القرآني متعال على الزمان والمكان.. لا يدخل في التفاصيل.. وهو نص متسع المعنى.. ومن هنا خلوده.. أما أقوال الصحابة فهي تختلف عن ذلك.. هي مغرقة في الزمان والمكان.. الصحابي ينطلق من ثقافته وهمومه وأسئلته في فهم النص القرآني.. وهذا أمر طبيعي..


بناء على ما سبق.. فقول الصحابي إذا كان تفسيرا للمفردة بكلام العرب.. فهو ليس تفسيرا وإنما نقل مأثور.. أما إذا كان تفسيرا برأيه.. فأهميته تأتي من معاصرته للتنزيل.. ودرايته باللغة.. لكنه لا يتصف بالعصمة ولا بالخلود.. لأنه تفسير مرتبط بتلك الثقافة.


قول الصحابة ليس تفسيرا قطعيا.. لكنه لا يستهان به.. يجب الوقوف عنده والتأمل فيه إذا صح السند إليه


(4) أقوال المفسرين


وقريب من هذا الكلام يقال عن كتب التفسير.. المفسر هو ابن زمانه.. خارج من رحم ثقافته.. مهموم بأسئلته.. هناك نموذج كامن في عقله.. وهو يفسر النص القرآني بعقله الغارق في الزمان والمكان.. والنص القرآني نص خالد.. لكن النصوص البشرية لها عمر افتراضي


كيف نتعامل مع كتب التفسير؟ هل نحن ملزمون بما جاء فيها؟ هل هي حاجز بيننا وبين القرآن؟ هل الممكن أن نفهم القرآن بدونها؟ هذه الأسئلة تتكرر دائما.. ويتخيل بعضنا أن الجواب لا بد أن يكون إما أقصى اليمين أو أقصى الشمال.. إما التقيد بكتب التفسير أو نبذها..وأظن الأمر ليس كذلك.. لكل علم مسيرة.. وتراكم معرفي.. لا تستطيع أن تتجاهل تراكم أي علم من العلوم وتدعي أنك ستبدع حين تبدأ من الصفر.. خذ أي علم من العلوم.. وحاول أن تتجاهل تاريخه المعرفي.. لن تستطيع ذلك.. لكن هذا لا يعني التوقف عند ذلك التراث.


المسألة سهلة لكنها تحتاج إلى قليل من التوضيح.. لابد أن تقرأ التراث التفسيري وتتشبع به.. ثم تتجاوزه.. هذه قناعتي


مهمة التراث التفسيري أن يساهم في صناعة (العقلية التأويلية) عندك.. أن يطلعك على تجارب المفسرين في التعامل مع النص.. أن تعرف المدارس المختلفة.. وبعد صناعة (العقل التأويلي) عليك أن تتعامل مع النص بشكل مباشر.. وأن تتجاوز ما قرأته في كتب لتفسير.. والعملية ليست تراتبية.. أي ليس عليك أولا أن تقرأ في كتب التفسير نصف عمرك.. ثم تفهم النص بشكل مباشر في نصف عمرك الآخر� هي مرحلة متوازية.. عليك أن تطلع على ما كتبه السابقون والمعاصرون.. وفي الوقت نفسه عليك أن تتعامل مع القرآن بعقلك.. هذه هي الخلاصة


(5) التثاقف وأثره في التأويل


تحدثت بالأمس عن كتب التفسير.. وعن دورها في صناعة العقل التأويلي.. ومختصر ما قلت أن تتشبع بالتراث ثم تتجاوزه.. الحديث عن دور الثقافات الأخرى في تطوير العقلية التأويلية.. وبالتحديد عن دور علوم فلسفة اللغة واللسانيات في ذلك أخذ جدلا طويلا ولا يزال.


توصف علوم اللسانيات (أعني بها هنا كل العلوم المتعلقة بفلسفة اللغة والتأويل والسيمائيات) بأنها الحلقة الأخيرة في علوم الفلسفة.. وهي ناتجة من القناعة أن اللغة والفكر والثقافة تدور في علاقة جدلية.. كل منها يصنع الآخر..لكن اللغة هي العامل الأقوى في هذه العلاقة الجدلية.. اللغة هي العامل الأقوى في إنتاج أفكارنا وثقافتنا.. ومن هنا جاء الاهتمام بفلسفة اللغة.


فلسفة اللغة تعتني بطبيعة اللغة ونظامها وتأويلها، فهي رؤية كلية للغة وهذا يختلف عن علوم النحو والبلاغة.. ولا يزال العلم في مرحلة التطور والنضوج.. وأظن أن هذا ميزة له.. حيث فرصة المساهمة والمشاركة كبيرة


لا يوجد تعريف محدد للسانيات.. فاللسانيات ليست هي البنيوية ولا أركيولوجية فوكو.. ولا غيرها.. هذه كلها اتجاهات داخل هذا العلم (اللسانيات).. وأظن أن الإفادة من علوم اللسانيات ضرورية.. ولابد من مرحلتين قبل ذلك..


الأولى: القراءة العميقة في العلم نفسه في داخل بيئته.. بمعنى أن المفكرين العرب لهم فهمهم وتوظيفهم للسانيات في تأويل القرآن.. وهذا رسخ مفهوما معينا في أذهاننا عن هذا العلم.. والأمر ليس كذلك.. فللسانيات اتجاهات كثيرة.. وبعض المفكرين العرب ينتقي ما يناسبه.. لذلك ليس صحيحا أن نحكم بالعموم على اللسانيات أنها (عدو) للنص القرآني..عداوة العلوم بشكل جذري أسوأ ما يمكن أن يقع فيه الباحث.. واستعداء الناس على (علم) معين حالة انطواء على الذات ودلالة ضعف.. هذا ما حصل في التاريخ مع علم المنطق والفلسفة مثلا.. وهناك أطروحات لبعض المفكرين الإسلاميين من هذا النوع .. وهذا مؤسف جدا.


لا بد من استيعاب علوم اللسانيات واتجاتها في بيئتها.. ثم كمرحلة ثانية لا بد من توطين هذا العلم في بيئة الثقافة الإسلامية.. وهي عملية صعبة للغاية.. نحن بحاجة إلى استيعاب التراث الإسلامي واستيعاب علوم اللسانيات.. لأن هناك منتج جديد سيخرج بين أيدينا وليست مجرد تعديلات أو أسلمة


نحن بحاجة إلى إنجاز أمرين .. الأول هو ما يمكن أن نسميه (طبيعة النص القرآني)، طبيعة نص أي خصائصه، طبيعة لغته، الأسئلة التي جاء ليجيب عليها.. والأسئلة التي لم يأت للإجابة عليها، مدى رمزيته، واتساع معانيه، ومدى علاقته بالزمان والمكان الذي نزل فيه � الخ


النص القرآني ليس له مثيل في التراث الغربي، طبيعة الإنجيل تختلف عن طبيعة القرآن، ولذلك نحن نتحدث عن إنشاء شيء جديد


الأمر الثاني وهو يأتي بعد الأول، وهو إنشاء نظرية للتأويل.. نظرية التأويل هي اجتهاد بشري.. ناتجة من رحم الثقافة الإسلامية ومستفيدة من تجارب وثقافات الأمم الأخرى، وهي نظرية تتطور بالبحث والتجربة، وفضاء الحرية العلمية، ولا يمكن أن تنتج في بيئة تعاني من محاكم التفتيش إلا بتضحيات كبيرة.


هناك عدة اعتراضات على هذا سأورد أهمها، وهو التمركز حول الحداثة الغربية، لماذا حين نطرح التثاقف نطرح الغرب بالتحديد؟ وهو اعتراض منتشر، الواقع أن الثقافات الأخرى ليست متاحة، بعكس الثقافة الغربية، وياليت لو يتاح لي شخصيا الاطلاع على تجربة البوذيين والهندوس في تعاملهم مع (الفيدا) ونصوص (بوذا)، وتحربة الصينيين في تعاملهم مع نصوص كونفوشيوس، وغيرهم، لانها عملية تثاقف وليست تقليد.. ولكن هناك أمر آخر جدير بالملاحظة.. أليس من يتوقع أننا سنصل إلى النتيجة التي وصل إليها الغرب إذا قمنا بالإصلاح الديني هو المتمركز حول الغرب! لكل أمة ثقافتها، وسياقها الاجتماعي، فإذا انتشرت (الحرية) مثلا في الشرق لن تكون نتيجة هي ذاتها التي وصل إليها الغرب.. ومن يقول ذلك فهو يعيش تمركزا حول التجربة الغربية، وهو أسير لتاريخها، ولا يتخيل تجربة تختلف عن تجربتها


(6) تفسير القرآن وفق ترتيب النزول


ظهر هذا النوع من التفسير في العصر الحديث.. ولا أستطيع الجزم بهدف كل مفسر من ذلك.. لكن من الأسباب المهمة.. هو تتبع تكوين النص القرآني.. أو بمعنى آخر هو ينطلق من أن القرآن الكريم جاء بلغة عصره.. واللغة هي الثقافة والفكر.. وبالتالي جاء مرتبطا بالزمان والمكان.. وقد تحدثت عن هذا سابقا.. ومحاولة تتبع القرآن وفق ترتيب النزول هو محاولة ملاحظة هذه العلاقة بشكل دقيق..وهذا نابع من تصور أن القرآن مرتبط بأسباب النزول.. أي أن أكثر القرآن أو كثير منه نزل بسبب.. بمعنى نزل بسبب حادثة ما.. فإذا فسرنا القرآن وفق ترتيب النزول سنكتشف هذه العلاقة بالتحديد وبالتالي نكون كشفنا وحللنا معنى (تاريخية) النص.. عرفنا مدى ارتباطه بالزمان والمكان


سأبدي ملاحظاتي على هذا النوع من التفسير.. إذا حددنا الهدف بأنه البحث عن مدى ارتباط القرآن بالزمان والمكان.. فلاحظ أننا نتحدث عن فترة زمنية محددة.. ٢٣ سنة.. هذه الفترة محدودة.. والتحولات فيها قليلة.. بالتالي نحن بحاجة إلى دراسة تاريخية.. تحدد لنا الظروف التي صاحبت عصر النبوة.. نحن بحاجة إلى معرفة الظروف أو السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية.. ولا أدري هل توجد دراسة من هذا النوع أو لا


(أرجو ممن يعلم دراسة جادة تبين لنا تلك الظروف/ السياقات أن يدلني عليها وأكون له من الشاكرين(


من الممكن أن نقسم أيضا تلك المرحلة (٢٣سنة) إلى مكانين (مكة والمدينة) لاختلاف بعض الظروف بينهما واختلاف لغة الآيات في كل منهما وبالتالي نستطيع تحديد علاقة النص بالظروف المحيطة حوله.. دون إعادة ترتيبه وفق ترتيب النزول


هذا يقودنا إلى قضية أسباب النزول، وفي أسباب النزول كلام طويل، لكن سأكتفي هنا بالحديث عن جانب واحد وهو أن الآيات التي نزلت بسبب قليلة جدا، ويمكننا معرفة ذلك من خلال كتب أسباب النزول، وأغلب آيات القرآن نزلت بدون سبب


أريد التفريق هنا بين (أسباب النزول) و(ظروف أو سياقات النزول).. السبب هو الحادثة.. قصة ما.. والظروف هي ما يمكن استخلاصه من مجموع القصص.. قد تكون الحادث دالة على الظروف وقد لا تكون كذلك.. هذا مهم جدا.. الحديث عن علاقة القرآن بالزمان والمكان.. لابد أن ينطلق من علاقته بظروف/ سياقات النزول، وليس من علاقته بالحوادث.. وهي الأسباب.. لأن السبب لا يحكي التاريخ.. بل قد يكون خادعا


إذا وافقنا أن الحديث ليس عن الأسباب وإنما عن الظروف.. وإذا وافقنا أن هناك فرق بين الزمنين، زمن النبوة وما بعدها (فصلت في ذلك في مقال: طبيعة النص القرآني).. فأظن أن التفسير وفق ترتيب النزول لم تعد له تلك الأهمية.. بل هو في الواقع لا يحقق الغرض الذي جاء من أجله


تبقى هناك قضية منهجية.. وهي صعوبة العثور على ترتيب يقيني لنزول الآيات.. فهناك عدة قوائم لترتيب النزول والروايات في الكثير منها ضعيفة.. وهناك معايير اجتهادية للترتيب ولا تعتمد على الروايات.. فكيف يمكن إقامة منهج على أساس ظني!


أضف إلى أن ترتيب النزول لا يتعلق فقط بالسور.. وإنما حتى بالآيات.. فأحيانا تنزل السورة كاملة وأحيانا مجموعة من الآيات وهذا يعقد مسألة الترتيب أكثر.. الخلاصة أننا إذا أردنا معرفة ارتباط القرآن بزمان ومكان النزول (التاريخية) فأظن أنه علينا إنجاز التالي: دراسة ظروف/سياقات النزول، بدلا من الأسباب.. ثم دراسة العلاقة بينها وبين النص.. بحسب كل سورة على حدة.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on August 07, 2012 09:36

طبيعة النص القرآني

أظنني بحاجة إلى تقديم اعتذارين بين يدي هذه المقالة، اعتذار عن الاختصار الشديد في مسائل تحتاج إلى مزيد من التفصيل، واعتذار آخر عن أسلوب الكتابة، فأصل هذه المقالة تغريدات في موقع تويتر، ثم رتبتها ووضعتها في صفحتي على الفيس بوك، وللتغريدات طريقتها في الكتابة، ولو أني أجلت نشرها إلى حين إعادة صياغتها، لصار مشروعا مؤجلا، لذلك فضلت أن أنشرها كما هي.


(1)في الطبيعة الوجودية للقرآن الكريم


من القضايا التي أخذت جدلا واسعا بين المفكرين والعلماء قضية خلق القرآن، والسؤال هو: هل القرآن كلام الله أم أنه مخلوق؟ القضية من الناحية العقدية والكلامية قديمة جدا وهو خلاف مشهور في التاريخ بين أهل السنة والمعتزلة، حيث قال أهل السنة بأنه صفة أزلية وقال المعتزلة بأنه مخلوق.. وحديثا أثار القضية بعض المفكرين العرب وسبب إثارة الموضوع بنظرهم أن القول بخلق القرآن يعني أنه نص لغوي وليس نصا سحريا.. له طبيعة مثل طبيعتنا.. بإمكاننا فحصه.. وسيكون ابن اللحظة التاريخية التي نزل فيها وبالتالي لن نواجه مشكلة التاريخية.. فهو نزل في ظروف تاريخية معينة وبالتالي سيكون مراعيا لها.. ومن ناحية أخرى سنتخلص من مشكلة التقديس المبالغ فيه في التعامل مع القرآن..


أما إذا قلنا إنه كلام الله فهذا سيعني أنه خارج عن قدرتنا في الفحص والدراسة.. وأنه بخلاف بقية النصوص سيكون متعاليا على الزمان والمكان الذي نزل فيه.. وسيتم التعامل مع القرآن بوصفه نصا فوق قدرة الإنسان على الفهم..


يعتقد البعض أنه لا يمكن أن نصل إلى فهم عقلاني للقرآن، غير أسطوري ولا سحري، إلا إذا قلنا إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، حسنا.. دعونا نتفحص هذه المسألة التي أخذت جهدا من النقاش والجدال في الفكر المعاصر.. نحن الآن أمام مسألة عقدية، هذه المسألة تطرح تصورا للقرآن قبل وجوده في عالم الشهادة، هل هو مخلوق أم صفة إلهية، تتحدث عن القرآن في عالم الغيب.. ولكن ماذا بعد وجود القرآن في عالم الشهادة؟ هذا القرآن الذي بين أيدينا نزل بلغة العرب في زمان النبوة في فترة ٢٣ سنة، ولم ينشئ لغة جديدة.. استعمل التشبيهات والمجازات.. ونفس المصطلحات.. وطورها بالقدر الذي تسمح به اللغة.. فالقرآن ليس نصا سحريا.. بل هو نص لغوي.. يمكن فهمه وتعقله وفق قواعد اللغة العربية.. هذا القدر من التصور لا علاقة له بكون القرآن مخلوق أو صفة إلهية..


بمعنى أن القرآن حين نزل بلغة العرب في عصر التنزيل فإنه بالتالي جعل نفسه محلا للدراسة وفق قواعدهم في اللغة.. فالقارئ للقرآن والمؤول له يتعامل مع نص لغوي بين يديه.. وأثناء التعامل لا يوجد فرق إن كان يعتقد أن هذا النص في أصله صفة إلهية أم كلام مخلوق..


من يتعامل مع القرآن تعاملا أسطوريا.. هو لا يفعل ذلك انطلاقا من كونه صفة إلهية.. ولكن من حالة الوعي الأسطوري الذي تعيشه مجتمعاتنا.. ومن حالة التخلف في العلوم الإنسانية المختلفة.. بالتالي أظن أن الخلاف بين من يقول بخلق قرآن ومن يقول بكونه صفة إلهية.. هو خلاف لفظي في هذا الجانب.. أي فيما يترتب عليه من عمل في الدنيا.. هذه مسألة وجودية عقدية غيبية


(2) في مفهوم التاريخية


مفهوم التاريخية من المفاهيم الشائكة جدا في طبيعة النص القرآني.. وقد شوهت التاريخية لدرجة كبيرة.. وصار البعض يعتقد أن من يقول بالتاريخية يكون قد نفى خلود القرآن وصلاحيته لكل زمان ومكان.. وهذا ليس صحيحا في رأيي.. سأوضح مفهوم التاريخية بشكل عام ثم أفصل قليلا.


النص اللغوي هو إنتاج بشري.. هناك خلاف في أصل وجود اللغة.. لكن اللغة التي نعيشها الآن نحن من ينتجها.. ولذلك فهي شديدة الصلة بالثقافة.. اللغة والثقافة والفكر والوجود.. هذه عناصر متداخلة.. اللغة ينتجها الإنسان وفق ثقافته وتاريخه وأفكاره.. ولذلك تتطور اللغات وتتغير


حين نزل القرآن الكريم نزل بلغة العرب في زمان النزول.. واستعمل لغتهم نفسها.. نفس الاستعمالات والمصطلحات.. لم يأت بلغة مختلفة.. ولم ينشئ مصطلحات جديدة.. مثلا وصف العلاقة بين الإنسان وربه بالحب (يحبهم يحبونه) كلمة الحب يعرفها العرب من خلال علاقاتهم المختلفة بالحبيبة والأم والأم والصديق.. الخ، وبالتالي فلهذه الكلمة معانيها في النفس، لم يأت القرآن بمصطلح جديد ويضع له تعريفا جديدا، وإنما أخذ مصطلحات العرب وطورها داخليا (داخل النص) كعادة النصوص في تكوين نظامها الداخلي


هذا المعنى السابق باختصار شديد هو معنى التاريخية.. أن النص القرآني جاء متموضعا تاريخيا.. جاء وفق لغة العرب زمن النزول.. اللغة التي هي من إنتاج العرب أنفسهم والتي تعبر عن ثقافتهم وتفكيرهم.. وهذا المعنى لا يعارضه المفسرون.. فهم يقولون إن القرآن نزل ( على عادات العرب في كلامهم).. وأنه مرتبط بشكل ما بالزمان والمكان.. ولذلك تحدثوا عن أسباب النزول والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ..


المسألة هنا.. أنك كلما ابتعدت عن زمان ومكان النزول.. ستبتعد عن الثقافة التي نزل فيها النص.. وبالتالي سيكون فهم النص أصعب بالنسبة لك.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ستواجه مشكلة في التأويل.. لأن الثقافات تختلف من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر.. فكيف ستجعل القرآن صالحا لكل زمان ومكان.. علما بأن القرآن لم يأت لتثبيت الزمان والمكان.. هنا سينتج كل كاتب معادلته الخاصة به في التوفيق بين تاريخية النص وخلوده.. وستجد اختلافا كبيرا بينهم


الخلاصة أن أصل فكرة التاريخية لا يستطيع أحد إنكارها.. وإنما الاختلاف سيكون في مدى ارتباط النص بزمان ومكان النزول ومدى تعاليه عليه.. وما هو مفهوم صلاحية النص لكل زمان ومكان.. وكيف سيتم ذلك.. بمعنى كيف سيؤول النص ليبقى صالحا لكل زمان ومكان


(3) القرآن بين زمنين


من القضايا المهمة جدا في طبيعة النص القرآني التفريق بين زمانين.. وأظن أن لهذا التفريق أثر كبير في تصورنا للقرآن .. وما يتبع ذلك من تأويل


الزمن الأول: عصرة النبوة، والثاني: مابعد النبوة..


سأبدأ بالزمن الأول.. نزل القرآن القرآن الكريم منجما، أي مفرقا في ٢٣ سنة، نزل القرآن بمنظومة قيمية جديدة، بنموذج غير معهود لدى الناس، والدعوة لنموذج جديد عملية صعبة للغاية، بل هي مهمة تكاد تكون مستحيلة، في كثير من الأحيان نحن ندعو لتصحيح النموذج (الإصلاح)، لكننا في الواقع لا نستطيع الإتيان بنموذج جديد بالكامل، صحيح أن هناك بقية من الحنيفية في مكة، وأن أهل الكتاب كانوا في المدينة، لكن هذا لا يشكل إرثا ولا أرضية صلبة للدين الجديد، فلم يتبق من الحنيفية إلا بقايا لا تشكل دينا، وكان دين أهل الكتاب في جزيرة العرب دينا أسطوريا، بمعنى أن المدينة كانت متخلفة دينيا بالنسبة لمناطق أخرى مثل مصر والشام


يذكر بعض المفكرين أن إقامة نموذج جديد من الصعوبة بمكان، وأنها بحاجة إلى زمن يقدر من قرن إلى قرنين، ونجاحه غير مضمون.. وكان على النبي عليه الصلاة والسلام أن ينجز هذه المهمة في فترة قصيرة جدا (٢٣ سنة)، وبالتالي حدثت استثناءات كثيرة في هذه الفترة، وأظن أن أهم استثناء هو وجود النبي عليه الصلاة والسلام، بمعنى أن وجود إنسان يأتيه الوحي من السماء هي حالة استثنائية في التاريخ


من ناحية بناء المنظومة، يعد الوحي اختصارا للزمن، لأنه يحسم الخلاف بين الخير والشر، يحدد منطقة الخير والخير في كل حادثة، هذا السؤال الذي يأخذ منا جهودا كبيرة ويستغرق عقودا، حتى تتبين لنا مساحة الخير ومساحة الشر في حادثة تاريخية ما


نعود إلى القرآن الكريم، من هذه الاستثناءات نزول القرآن منجما، وهو ما استشكل على العرب، قياسا على ما يعلمونه عن الأمم السابقة من نزول الكتب السماوية جملة واحدة


نزول القرآن مفرقا يجعل تقبله وتطبيقه عملية تراكمية، ويجعل انسجامه مع الواقع أسهل وأقوى، ولذلك اقترن العلم بالعمل عند الصحابة، لكن المهم هنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعيد ترتيب القرآن بعد نزوله، فيقول ضعوا هذه الآية في الموضع الفلاني، فمن هنا صار عندنا ترتيبان.. الترتيب الأول هو ترتيب النزول، والثاني هو ترتيب المصحف، لكن لاحظ أن ترتيب النزول هو ترتيب واقعي، أي حكاية ما حدث في زمن النبوة وترتيب المصحف هو الترتيب الداخلي للقرآن، الذي أمر به الرسول (ص)، وهناك خلاف حول ترتيب السور هل هو توقيفي أم اجتهادي، لكن هناك إجماع حول ترتيب الآيات داخل السورة، وهو الأهم، لأن لكل سورة سياقها المستقل، ونظامها الخاص بها


الزمن الثاني: هو زمن ما بعد النبوة، وهو زمن اكتمل فيه القرآن، وصار له ترتيبه الخاص، وصار مصحفا، صار (الكتاب)، والقرآن وصف نفسه أنه (الكتاب) في مرحلة مبكرة، مثلا في سورة الكهف، وهي نزلت مبكرا، (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، والكتاب تعرفه العرب، فهو كما يوصف (ما يعلم أوله وآخره) يعني أن له ترتيبا محددا، أي هو ليس ملفا (دوسيه) توضع فيه الأوراق بشكل عشوائي، وإنما هو كتاب له ترتيبه، وهو (ما يوضع على الرف) أي أن العرب كانت تعي معنى هذه الكلمة، وبالتالي فالقرآن يصف نفسه باعتبار ما سيكون، يصف نفسه بعد اكتماله، بعد زمن النبوة بأنه كتاب له ترتيبه


أصبح لكل سورة من القرآن سياقها الخاص بها، تعرض السورة الفكرة من بدايتها إلى نهايتها بطريقتها الخاصة، هناك ما يسمى الوحدة العضوية للسورة، السورة متماسكة بأفكارها، بأسلوب القرآن في العرض، وهذا بالطبع يختلف كثيرا، عن ترتيب النزول، لأن نزول القرآن مفرقا لم يكن بالسور وإنما بمقاطع الآيات، وبالتالي سنلحظ فرقا كبيرا بين الترتيبين


بالنسبة لي أنا قارئ القرآن الآن، أجد بين يدي مصحفا مكتملا، أقرأ كل سورة على حدة، مكتملة، وأقرأ القرآن في ظل وجود نموذج إسلامي ما، بالنسبة للصحابي في زمان النبوة، كانت الآيات تنزل مفرقة، ثم يعاد ترتيبها، وهو بالتالي يتعامل مع القرآن بطريقة مختلفة، وقد كان الصحابي يقرأ القرآن المنزل في ظل وجود تصورات سابقة، هي ليست إسلامية، وجاء القرآن متمما بها أو معارضا لها.. وأيا كانت النتائج التي سنخرج بها، فأظن أن مجرد ملاحظة الفرق بين الزمنين مهمة جدا.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on August 07, 2012 09:31

تجريد النموذج القرآني

أظنني بحاجة إلى تقديم اعتذارين بين يدي هذه المقالة، اعتذار عن الاختصار الشديد في مسائل تحتاج إلى مزيد من التفصيل، واعتذار آخر عن أسلوب الكتابة، فأصل هذه المقالة تغريدات في موقع تويتر، ثم رتبتها ووضعتها في صفحتي على الفيس بوك، وللتغريدات طريقتها في الكتابة، ولو أني أجلت نشرها إلى حين إعادة صياغتها، لصار مشروعا مؤجلا، لذلك فضلت أن أنشرها كما هي.


(1)سؤال النموذج!


من القضايا المهمة في التعامل مع القرآن الكريم.. وفي تحديد طبيعته.. هو معرفة الأسئلة التي جاء ليجيب عليها.. والأسئلة التي لم يأت للإجابة عليها .. هذا سيجنبنا تحويل القرآن إلى نص سحري أو أسطوري.. وأعتقد أن من أهم ما جاء ليجيب عنه القرآن هو النموذج الإسلامي


لنطرح السؤال ابتداء.. هل يحمل القرآن في داخله نموذجا، أم لا؟! أقصد بالنموذج وجود بنية متماسكة من الأفكار تتضح فيها الأفكار المركزية والأفكار الثانوية.. وتتضح العلاقة بين كل فكرة وأخرى.. وتتضح فيها الغايات.. وكذلك الكليات


محمد أركون (كمثال) طرح هذا التساؤل.. وقال إننا إذا حاولنا ذلك فأظن أننا سنكتشف أنه لا يمكن استخلاص نموذجا من القرآن.. وكلامه يعني أن النص القرآني واسع الدلالة جدا.. لدرجة أنه يقبل كل نموذج.. بل من الممكن أن يقبل نموذجين متضادين.. وبالطبع فإن جميع المفكرين الإسلاميين يعتقدون العكس وأن القرآن يقدم نموذجا إسلاميا.. ولكن السؤال سيكون: ما هو هذا النموذج؟ هل هو معتقد السلفية أم الأشاعرة أم المعتزلة أم غيرهم؟! بالتالي ستكون أكثر الأجوبة هي أن النموذج الإسلامي يساوي معتقدنا (نحن)


لا شك أن النص القرآني واسع الدلالة.. وبالتالي لا بد أن نتحدث عن سعة النموذج الذي سنجرده من القرآن.. ومن أهم ما يجيب عليه النموذج الأسئلة الثلاثة الكبرى (الإله، الإنسان، الوجود)، عن ماهية كل منها، وعن العلاقة بين كل أجزائها


مثلا نصر أبو زيد يعتقد أن نموذج الإنسان في اعتقاد أهل السنة يختلف كليا إلى درجة التضاد مع نموذج الإنسان عند المعتزلة.. ولست أوافقه في ذلك..


سأبين رأيي بعيدا عن مناقشة الآراء الأخرى..


أعتقد أن القرآن الكريم يحمل نموذجا بالتأكيد وهذا النموذج شديد الاتساع.. بشكل يفوق تصور كثير منا.. بل بصراحة كلما فكرت في مدى إمكانية اتساعه تصيبني الدهشة.. وأظن اتساعه يفوق حتى تصوري له الآن.. ومع ذلك فهو نموذج متماسك.. كثير من الثنائيات تستمر فترة طويلة.. ثم يكتشف الإنسان أن الثنائية كانت وهما.. وأن ما ظنه متنافرا أو ينازع بعضه بعضا ظهر منسجما بوجه آخر.. والوعي هو ما يبين وهم الثنائيات.. وكثير من الأفكار التي تبدو متناقضة في تراثنا.. والتي لازلنا نراها الآن كذلك.. أظننا يوما ما سنكتشف انسجامها


أظن أن النموذج الإسلامي واسع لدرجة يمكننا تصوره نموذجا ذا نماذج.. وأن الصراط المستقيم يحمل في داخله صراطات مستقيمة.. سعة النص القرآني لأجل استيعاب نماذج وتصورات بشرية متعددة تجاه الوجود والإنسان.. وهو بهذا الاتساع يفسح المجال للفكر البشري وللتراكم المعرفي بالوجود.. ذلك أن النص القرآني لا يدخل في التفاصيل.. وإنما نحن من نحاول استنطاقه فيها.. وبطريقة نفعية في كثير من الأحيان


لو أخرجت نفسك من دائرة معتقدك.. وحاولت أن تقرأ النص من بعيد.. وتنظر هل يحتمل النص مختلف التصورات أم لا.. أظن النتيجة ستكون مدهشة.. وكما قلت فأنا أراهن على (الوعي) أنه سيكشف لنا وهم التناقض بين كثير من التصورات في التراث الإسلامي والتي تفاصلنا عليها كثيرا


أتمنى تفسيرا للقرآن يبين اتساعه.. ومدى هامش الحركة المتاحة فيه.. ومساحة التأويل الممكنة.. بدل الحديث عن الراجح والمرجوح.. وأتمنى فكرا إسلاميا يحدثنا عن سعة التصورات.. ويفسح المجال للفكر الإنساني.. بدل الحديث عن الفتاوى التفصيلية


إن فهمنا للنموذج الإسلامي هو فهم نسبي للمطلق.. فهم بشري مثقل بثقافة عصر وهمومه وأسئلته.. وهو جزء من النموذج لا كل النموذج


سأحاول وضع تعريف أولي للنموذج.. وهو مستفاد من كلام المسيري .. النموذج هو :الأفكار المحورية المجردة من النص القرآني، التي تمنحه وحدته وتربط بين عناصره، والتي قد لا تكون ظاهرة ولكنها كامنة في كل أجزائه


(2) العثور على الفكرة


من الأسئلة المتبادرة إلى الذهن عند الحديث عن كثير من الأفكار المعاصرة.. هو غيابها في القرآن كريم.. بالطريقة التي نطرحها الآن.. مثلا مفهوم (الحرية) أخذت اهتماما كبيرا من المفكرين.. ويقول ابن عاشور ومثله الريسوني أنه من الممكن أن تكون من المقاصد الكبرى للشريعة أو حتى سادس الكليات الخمس.. ولكن حين نتصفح القرآن لا نجد الاهتمام بالحرية كقيمة بهذا الوضوح.. ولنأخذ أيضا موضوع الإنسان.. مركزيته وأهميته وحقوقه.. لا نجده في القرآن بهذه الطريقة.. وهو سؤال يتكرر..


أظن أن المسألة كالتالي: لكل عصر وكل ثقافة أسلوبها في عرض الأفكار.. طريقة تركيب الفكرة تختلف من زمن إلى آخر.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فالإنسان يعبر عن القيم بحسب حاجته إليها..فالحديث المتكرر عن قيمة (الحرية مثلا) تدل على فقدها والحاجة إليها.. فحين تجد الصحافة في بلد ما تتحدث عن أهمية القانون فهو إشارة إلى فقدها وحاجة الناس إليها في تلك البلد.. وربما يكون الحديث المتكرر عن القيمة دلالة على الاعتزاز والتمركز حولها


والقرآن كلام الله.. وللقرآن أسلوبه الخاص في تركيب الأفكار.. وليس صحيحا أن نحاول البحث عن الفكرة في القرآن بحسب طريقتنا في تركيب الأفكار.. بمعنى أن النص الديني هو نص يستوعب المنظومة القيمية بطريقته وليس بطريقتنا.. فالحقوقيون لهم ترتيبهم في تنظيم الفلسفة الحقوقية.. والفلاسفة لهم ترتيبهم في ترتيب الأسئلة الكبرى.. وأكبر خطأ فيما أظن هو محاولة الأسلمة.. أن نقول إن النص الديني سبق إلى الحديث عن هذا أو ذاك.. النص الديني مستوى مختلف عن مستوى مدونات حقوق الإنسان مثلا.. لهذا مجاله ولهذا مجاله


أعود للموضوع.. حين أستشعر قيمة (الحرية) مثلا.. أو (مركزية الإنسان).. وأريد البحث عنها في القرآن.. فماذا أفعل؟


بداية لن أجدها بالطريقة المركبة الفلسفية التي في ذهني.. فلابد أن لا أبحث عنها بهذه الطريقة.. فللقرآن أسلوبه الخاص كما سبق القرآن نص متسع المعنى، وهو يحتوي (نموذجا) متماسكا، يجمع بين الاتساع الشديد والانتظام، والبعد عن الفوضى والتناقض.. بالتالي إذا كنت أقول مثلا إن الإنسان مركزي في الفكر الإسلامي.. فلا بد أن يؤيد القرآن ذلك وإلا كان ادعائي خطأ


حين أقرأ القرآن سأجد (الإنسان) مبثوثا وكامنا في ثناياه.. ودوري هو البحث عن مفهوم (الإنسان) في ثنايا القرآن.. مثلا من هو الإنسان في القصة القرآنية؟ أين الإنسان في حوار موسى وفرعون.. أين الإنسان في قصة خلق آدم وحوار الملائكة عنه؟


القصة القرآنية يكمن فيها موضوع الإنسان بشكل واضح.. وحتى في آيات الأحكام.. من المهم أن أستخلص مفهوم الإنسان منها.. و حتى في آيات العقيدة.. في سورة الإخلاص مثلا.. هناك مفهوم كامن للإنسان.. من هنا أستطيع معرفة ماهية (الإنسان) في القرآن وأستطيع تحديد هل هو مركزي كما ظننت.. أو أنني كنت مخطئا.. ومثلها الكلام عن الحرية أو المرأة أو العلاقة بالآخر� الخ


قد يكون هناك المفهوم مركزي في الدين.. لكن النص لم يعبر عنه بشكل مباشر.. لأن تركيب الأفكار في القرآن يختلف عن طريقتنا في تركيبه.. وليس أضر على القرآن ولا أكثر نفعية من الاستدلال المجزأ للآيات.. أن تقتطع من سياقها ويستدل بها على نفي فكرة أو إثباتها


(3)ثنائية العقل والنص.. حقيقة أم وهم؟!


من المسائل التي تطرح دائما ونسمع عنها.. قضية العقل والنص.. أيهما نقدم على الآخر! هل نقدم النص أم العقل؟.. كثير من الأحيان نسمع رأيا.. فيقال إنه رأي عقلي.. أو هؤلاء قوم عقليون.. أو متأثرون بالمعتزلة.. يقال إن المعتزلة قدموا العقل على النص.. وأهل السنة قدموا النص على العقل


أعتقد أن المسألة ليست بهذه الصورة.. وطرحها بهذا الشكل يخفي كثيرا من المخادعات.. العلاقة بين العقل والنص ليست علاقة حدية.. بمعنى إما هذا أولا أو ذاك


سأطرح رأيي بعيدا عن ذكر الآراء والخلافات..


يولد الإنسان ويبدأ احتكاكه بالكون.. يرى ويسمع.. يعرف أمه وأبيه وبيته.. ثم عائلته الأكبر.. ثم مجتمعه.. يتشكل العقل في (ثقافة) محددة لها معالمها.. ونموذجها.. تختلط بالفطرة التي ولد عليها.. حتى يصبح عسيرا عليه التمييز بينها


إذا أردنا أن نعود للثقافة ونكتشف كيفية تشكلها.. سنجد أن (الخطابات) و (النصوص) ساهمت بشكل مباشر في تكوينها.. وإذا أدرنا أن نرجع إلى الوراء قليلا سنجد أن الثقافات تتشكل في تفاعل مستمر بين الكلمة والمعنى.. بين الفكرة التي تتشكل داخل الإنسان.. والكلمة التي تخرج منه ليعبر بها عما بداخله فيساهم في تكوين ثقافة مجتمعه.. هكذا نحن.. نولد في ثقافة ما.. ونتفاعل معها.. ونكرسها وننقدها.. ونعيد إنتاجها.. ونساهم في تغييرها


سأترك لك مساحة واسعة من الخيال.. تفكر من خلالها كيف تتشكل الثقافات.. كم يكون الإنسان أسيرا لها.. ومنتجا في الوقت نفسه.. كم يكون الإنسان فاعلا في التاريخ.. محركا له.. ومقيدا به.. ومحدود الفاعلية


لنعد إلى موضوعنا.. يتشكل عقل الإنسان وفق ثقافته.. يتشكل نموذجه المعرفي.. وحين يتوجه إلى القرآن يتوجه وفق معارفه وأفكاره.. لا يأتي إليه خالي الوفاض.. أبيض الصفحة.. محايدا كما يدعي.. وإنما محمل ومثقل بنموذجه.. وبهمومه.. وبأسئلته.. وبأجوبته الافتراضية


على قدر مكانة النص في نفس القارئ.. يساهم النص في إعادة إنتاج أفكار القارئ.. فنصه المقدس هو المؤثر الأقوى بلا شك.. لكنه مع ذلك لا يستطيع نفي أفكاره السابقة.. وإعادة بناء نموذج جديد تماما.. إنما يساهم النص في إعادة إنتاج نموذج جديد معدل


يقرأ العقل النص.. فيتكون نموذجه الجديد.. ثم ينطلق بهذا النموذج إلى الواقع.. فيصدقه الواقع أو يخطئه.. فيعود إلى نصه ليعيد القراءة فيتكون نموذج آخر.. وهكذا


هي عملية تفاعلية لا تتوقف.. عناصرها الإنسان والثقافة والنص.. كلما ازدادات خبرة الإنسان.. ازدات قدرته على قراءة أفضل للقرآن الكريم


لا يطرح النص نفسه على الأرض.. ولا ينقش واقعه على المجتمع.. إنما جاء النص ليقرأه الإنسان.. ليتفاعل مع عقل الإنسان


حين تقرأ نصا من النصوص وتستقرئ أفكاره.. تحدد اتجاهاته الرئيسية.. ومقاصده.. وتتعرف على روحه.. فتعيش في منظومته..ثم قد تقع عينك على جملة تتصادم مع هذه الروح.. فتقول إن هذا المعنى الظاهر للجملة معنى مستحيل.. لأنه يتصادم مع روح النص كله.. فيأتي من يتهمك بتقديم العقل على النص.. فتقول إنه ليس تقديما للعقل.. ولكنه تقديم لروح النص التي تبينت من خلال الاستقراء على المعنى الظاهري الذي يظهر من هذه الجملة فقط.. خصوصا أن اللغة العربية تحتمل معان أخرى تتفق مع روح النصوص


أليس التعارض بين العقل والنص في كثير من أشكاله تعارض مفتعل!


حين تأتي النصوص الشرعية لتؤكد على مقصد العدل.. أو حرية الإنسان.. أو نبذ العنصرية.. في كل نصوصها المركزية الواضحة ثم يأتي نص في ظاهره تعارض مع هذه الروح وهذا الاتجاه وهذه المقاصد.. ألا يكون في الفهم الظاهري للجملة مشكلة!


لا يمكن أن يقول أحد إن العقل يقدم على النص مطلقا.. ولكن لكل نص.. أفكاره المركزية والثانوية.. ولابد من إعادة الأفكار الثانوية للمركزية.. بعبارة أخرى.. القرآن فيه المحكم والمتشابه.. ولابد من إعادة المتشابه إلى المحكم.. ليتسق النص.. ولا يمكن أن يحدد ذلك إلا بالاستقراء الكامل


إن ألفاظ القرآن الكريم التي تعبر عن آلية التعامل مع القرآن الكريم إنما تعبر عن العقل.. (التدبر) الذي هو الوصول إلى دبر الشيء..أي معناه الأخير.. فعلى القارئ أن يسعى للوصول إلى أقصى ما يستطيع من معنى.. ولا يكون ذلك إلا بالعقل


التذكر.. التفكر.. القراءة.. كلها آليات يتسخدمها العقل في التعامل مع القرآن الكريم.. لذلك لم يفسر النبي صلى الله عليه وسلم إلا جزءا يسيرا من القرآن.. وترك هذا النص العربي ليتفكر فيه الناس.






2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on August 07, 2012 09:28

August 1, 2012

كلمات في الحب

يفكر العلماء كثيرا في العلاقة بين الكائنات، عن الشيء الذي يحدث بين كائن وآخر، عن التآلف والتنافر، كيف يتحقق، وبأي طريقة؟ ربما من البديهي أن العلاقة بين الناس تتضح بوجود لغة مشتركة بينهما، فحين يلتقي إنسان بآخر،


تكون اللغة هي جسر التواصل بين المشاعر، وطريقة التعبير الأقوى عما في داخلنا، لكن ماذا عن حالات الانسجام التي تتم بين اثنين لا يتحدثان اللغة نفسها! ماذا عن حالات الارتياح التي نشعر بها تجاه شخص ما نجده في إحدى صالات الانتظار أو في مجلس أحد الأصدقاء أو في الطائرة مثلا! غابرييل ماركيز الروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل كتب قصة قصيرة عن امرأة شرقية رآها في المطار، لفتت انتباهه، ثم فوجئ بجلوسها إلى جانبه في الطائرة، كانت امرأة عملية للغاية، وتتحرك بصورة آلية ومحسوبة التوقيت، فمن حين جلست تهيأت للنوم وطلبت عدم إيقاظها، إلى أن وصلت الرحلة بعد ست ساعات، لكنه كان مكتفيا بالجلوس عن يمينها، كان يغط في خياله مستمتعا بحالة الارتياح أو الانسجام أو أيا كان اسمها، كان يعتقد أن ثمة ما يجذبه إليها، لكنه لا يدري سر ذلك، وصلت الرحلة وذهب كل إلى طريقه، ولم تفلح لغات العالم ولا قدرات غابرييل الهائلة في السرد على تطوير أو تجسير هذه العلاقة.


تتعقد المسألة أكثر حين نفكر في العلاقة بين الإنسان والكائنات الأخرى، بين الإنسان والحيوان، من قطط المنزل، أو مختلف أنواع الطيور، أو غيرها، وربما يصل الإنسان لحالة يشعر فيها بالانسجام مع الحيوان أكثر من بني جنسه من الإنسان، وقد تكون هذه العلاقة علاقة تبادلية، وتتعقد المسألة أكثر حين تكون بين الإنسان وبين الكائنات الصامتة، تلك النباتات التي لا يستطيع الإنسان أن يعرف على وجه التحديد ماهية مشاعرها تجاهه، علاقة الإنسان بأرضه، والفلاح بنخلته، والصياد ببحره، وراعي الجبل بأحجاره التي يمر عليها في يومه ذهابا وإيابا. يقترح بعض العلماء أن نفكر في (الحب) بشكل جدي، قد يكون الحب هو العلاقة وهو اللغة التي نتواصل بها، وهو الطاقة التي نفيض بها على بعضنا، يشعر الإنسان بمشاعر غيره تجاهه، وربما يكون هذا هو الشعور الوحيد الذي لا يمكن برهنته علميا والذي لا يخطئ فيه الحدس إلا نادرا، حين تشعر بشعور الحب تجاهك من غيرك أو حين تشعر بتلاشي هذا الحب ممن حولك، عليك أن تثق بهذا الإحساس في أكثر الأوقات. حين تكون مع مجموعة ما فإنك ستشعر إن كنت مقبولا بينهم أو لا، وكلنا جرب ولو في مرة من المرات رغبته في الخروج سريعا من أحد المجالس لشعوره بضغط نفسي هائل لأن ثمة من لا يحب وجوده ولو لم ينطق بذلك، وكلنا جرب تلك المجالس التي نتمنى أن يتلاشى فيها الزمن وتكون خالدة عبر الزمن.

يلاحظ بعض العلماء أن صفة الحب من الصفات الإلهية التبادلية، فقد قال تعالى (يحبهم ويحبونه) والصفات التبادلية قليلة، لذلك يقولون إن صفة الحب هي مركز العلاقة بين العبد وربه، وليس بين المحب والمحبوب قيود ولا سلطة، وبالتالي يكون الدين نابعا من داخلنا، لأن الأوامر والنواهي ستكون جزءا من هذه العلاقة، أما حين يتلاشى الحب فيصبح الدين سلطة خارجية، حينها يتحول الدين إلى قيود نؤديها إما لأجل النجاة فقط، أو لخوف المجتمع، أو حتى نفاقا. هل بإمكان الإنسان أن يكون محبا لكل ما حوله! أن يكون محبا للإنسان والوجود وسائر الكائنات! ربما يكون ذلك سهلا نظريا لكنه صعب من الناحية العلمية، أو على الأقل هو بحاجة إلى رياضة نفسية مستمرة، لكن العجيب حقا هو قدرة الإنسان على الاحتفاظ بقدر كبير من الكراهية لما حوله، كأنه مجبول على ذلك، أو مجبر عليه، من الناس من يكره كل شيء له علاقة به، يكره مدرسته وجامعته، وعمله، ومديره، وجيرانه، وسيارته، وبيته، وأثاثه، وحتى أهل بيته، كأنه يدور في طاقة من الكره لا يحسن الخروج منها، بل تتعجب من بعض العوائل التي تبدأ في كره أصهارها وأنسابها بمجرد الاتفاق على الزواج، وقصص الزوجات والحموات لا تخفى في موروثنا الشعبي. الحب طاقة ولغة وعلاقة، كلما أحببنا من حولنا قل الشر في المجتمع، هذه حالة طبيعية أشعر باطمئنان لها، لكني لا أحب تحويل هذه القناعة إلى حالة ميكانيكية، كإرسال طاقة الحب من مكان لآخر لتقليل الشر فيه، بل الشر يقل بالأخذ على يد الظالم، والقصاص منه، الحب قانون لكنه ليس كل القوانين.



 •  0 comments  •  flag
Published on August 01, 2012 07:28

July 25, 2012

الإعجاز العلمي .. مجرد ملاحظات

كلمة (الإعجاز) لم ترد في القرآن الكريم بالمعنى الذي يريده من يتحدثون عن إعجاز القرآن الكريم، وإنما وردت الآيات التي تتحدى المشركين أن يأتوا بمثله، وتتحدى الإنس والجن مجتمعين، وبالتالي سيكون معنى (الإعجاز) هو معنى إصطلاحي أورده العلماء من خلال فهمهم لمجموع لنصوص، ولذلك أيضا اختلفوا في تفاصيل التعريف.

معنى الإعجاز العلمي أن الاكتشافات التي تمت على يد الإنسان اليوم، أي بعد ألف وأربعمائة سنة من نزول القرآن الكريم، سنجد أن القرآن تحدث عنها، ومن المعلوم أن العلوم الطبيعية لم تكن متاحة في ذلك الوقت ولا حتى كثير من مقدماتها، فهذا دليل على صدق مصدر القرآن الكريم، لاحظ هنا أن لا يوجد تحد حقيقي، فأين التحدي بأن يأتوا بمثله! بمعنى أنهم لو أتوا بنص الآن، لقلنا إن الإعجاز العلمي مبني على أن القرآن نزل قبل ألف وأربعمائة سنة، ولذلك يقول العلماء المهتمون بالإعجاز العلمي إن مفهوم الإعجاز هنا فيه تجوز في المصطلح.

أخذ الإعجاز العلمي اهتماما كبيرا في العقود الماضية، ولقي دعما ورواجا ملحوظا، من مؤتمرات ومجلات وبرامج فضائية، بل وحتى تخصصات في الدراسات العليا في بعض الجامعات، ومواد دراسية، وقد كانت هناك تفاهمات بين الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة (مكة المكرمة) ووزارة التربية والتعليم، حول إدخال مناهج الإعجاز العلمي في التعليم العام، لكن لم ينتج عنها شيء، ثم كأنّ هذا الاهتمام بدأ يتراجع في السنوات الأخيرة.

ثمة جدل كبير بين العلماء حول الإعجاز العلمي، وثمة مؤتمرات وبحوث كثيرة ورسائل جامعية حول مشروعية هذا النوع من الإعجاز، وحول ضوابط هذا النوع من التعامل مع الآيات القرآنية، لكن لنأخذ الموضوع من زاوية واحدة، وهو موقف علماء الدين أو الفقهاء أو المفسرين من النظريات العلمية الحديثة، في التاريخ الغربي المسيحي نقرأ عن صدامات عنيفة بين الكنيسة وعلماء الطبيعة، نقرأ عن المشانق وأحكام الإعدام وإحراق الكتب، وللأسف فإن هذه الأزمة صُدّرت إلى الوعي الإسلامي، بمعنى أن بعض الكاتبين اعتقد أن الأزمة ذاتها موجودة في التاريخ الإسلامي، وتخيل حالات من الإقصاء والمحاكمات والقتل والملاحقة لعلماء الطبيعة، وأعتقد أن ذلك لم يكن موجودا، حتى لو تم تكفير فيلسوف ما فإن أبعاد التكفير لم تكن كما هي الآن.

هل على المفسر أو الفقيه أن يقف من الاكتشافات العلمية في عصره موقف الحياد، فلا يتدخل ولا يتكلم عنها؟! أم أنه ملزم بالكلام في هذه المسائل؟! من طبيعة الاكتشافات العلمية أنها ذات طبيعة تراكمية، وأنها تحمل في ذاتها الصواب والخطأ، وأن النظريات الصحيحة قامت على نظريات أخرى قبلها خاطئة، وأن النظرية مهما كانت قوتها ومهما استطاع الإنسان أن يبرهن عليها، ومهما زاد عدد المقتنعين بها، فإنه من الممكن جدا، أن يأتي زمان ما ويكتشف الإنسان خطأ تلك النظرية، ومن الجانب الآخر فإن من طبيعة القرآن الكريم أنه لم يأت ليفصّل في المسائل الطبيعية، فهو ليس كتاب في الفيزياء ولا الكيمياء مثلا، بل هو كتاب هداية إلى الله عز وجل، والآيات الكونية في القرآن الكريمة، -وهي ليست قليلة � لم تأت لإثبات نظرية علمية، فهي ليست مرادة لذاتها، وإنما جاءت لإثبات خالقها، جاءت آية على الخلق.

المشكلة الحقيقية حين يعتقد المفسر أن عليه أن يبين موقف القرآن من كل نظرية علمية، هل هي موافقة للقرآن أو معارضة له، هو بهذه الطريقة يرتكب عدة أخطاء وأخطار، منها أن العلوم الطبيعية تقوم على التراكم، وبالتالي لا بد من إتاحة المجال لها للعمل، فالنظرية الخاطئة اليوم سيتم تصحيحها غدا، لكن مهاجمتها في مهدها يوقف ويقطع هذا التراكم المعرفي الطبيعي، ومن طبيعة القرآن الكريم أن متسع المعنى، واتساع المعنى يعني أنه سيقبل معاني مختلفة، لكن هذا لا يعني أن هذا الاكتشاف العلمي بالتحديد هو التفسير الصحيح والوحيد للآية، الواقع أن المفسر حين يضع نفسه في هذا الموقف فإنه يقع في ورطة كبيرة، لأنه إن قال إن النظرية موافقة للقرآن فسيعلن الإعجاز القرآني، ونحن نعلم أن أشد النظريات يقينية هي قابلة للنفي في زمان متقدم على زماننا، وإن قال بمعارضة النظرية للقرآن الكريم فإنه سيقع في التصادم مع علماء الطبيعة وسيحدث ما حدث في التاريخ الغربي المسيحي، وسيكون عقبة أمام التراكم العلمي البشري.

ليس على المفسر أن يقف موقف الوصاية على النظريات العلمية وعلماء الطبيعة، أن يسمح بمرور نظريات معينة ويمنع أخرى، بل عليه أن يبين سعة النص القرآني، هذه السعة التي تحتمل معاني مختلفة، ربما تحتمل هذه النظرية وأيضا تحتمل تلك التي تخالفها، القرآن الكريم لا يتناقض مع الواقع لأن المتكلم هو الخالق سبحانه، ولكنه لم يأت ليكشف حقيقة الواقع العلمية.



 •  0 comments  •  flag
Published on July 25, 2012 07:23

July 17, 2012

مسلسل عمر.. أزمة فنية

لا يزال الجدل محتدما، ويوما بعد يوم يزداد الاصطفاف بين المؤيدين والمعارضين، ويزداد أنصار هؤلاء وهؤلاء، والإشاعات بدأت تنتشر عن تراجع القناة الفلانية عن عرضه، وعن قبول تلك القناة به، وعن أن عدد من حذف القناة من جهازه (الرسيفر) وصل إلى كذا وكذا، في سباق محموم نحو الليلة الأخيرة من شعبان، حتى يتبين من المنتصر في هذا التحدي العظيم، وإذا استبعدت الصراع الخفي وراء الحملة التي تشن على المسلسل، وعلى المجيزين لتجسيد الصحابة فيه -وقد تحدثت عنه في المقال السابق- فإن عموم المصطفين يشعرون بنشوة التحدي في هذا الصراع، في وقت تغيب فيه التحديات الحقيقية.

الحديث عن مسلسل عمر، هو في جزء منه يحكي أزمة (الفن) في الخطاب الإسلامي المعاصر، يحكي أزمة تلك الأسئلة التي طرحت منذ عقود ولم تجد لها إجابات شافية، أسئلة المسرح والسينما والصورة والرواية وغيرها، المنع ليس جوابا في كل الحالات، بل هو هروب من الجواب في حالات كثيرة، ومن أبرزها الفن، لو حاولنا مثلا أن نقارن بين فتاوى المعاملات المالية وفتاوى الفنون، لوجدنا أن جرأة الفقيه في المعاملات المالية تتجاوز بكثير جرأته في أسئلة الفن، بل نجد أنه قادر في المعاملات المالية على مخالفة الفتوى المشهورة، دون أن يواجه حملة شرسة من المجتمع، وإذا حاولت


أن تقرأ في الفتاوى المالية عند اللجان الشرعية في البنوك فستجد ذلك واضحا، لكن لا أحد يتجرأ على أن يفتي بقضية بسيطة في الفن، ولو تجرأ على ذلك، لتمت مواجهته بسيل من التهم، حاول أن تتذكر كم من مرة جاء ذكر العالم الفلاني، وقالوا (إنه متساهل.. إنه يجيز الموسيقى)، فأصبحت فتواه تهمة.

هل تصور الفقيه المعاصر للفن مطابق لتصور المختصين؟! أظنه سؤالا جوهريا، وبحسب ما نقرأ من فتاوى فهناك اختلاف كبير، وربما جذري بين الاثنين، كثير من الفتاوى تحاكم الفن بوصفه جزءا من الواقع، أي أنه من واقعنا الذي نعيشه، وبالتالي يجب أن يكون حقيقيا وصادقا، بينما يرى المختصون أن الفن عالم آخر، -وأنا أقصد بالفن هنا مطلق الفن وليس السينما فقط-، هو عالم يذهب إليه الفنان، إما ليحقق ذاته، أو ليبين ممكناته، أي ليحصل على الحياة التي لم يحيها في الواقع، أو ربما ليتمرد على واقعه، أو ليقول شيئا لا يستطيع قوله بالكلام المباشر، ليس خوفا، وإنما ليس كل شيء يمكن أن يقال بشكل مباشر، وبالتالي فالخيال والأسطورة جزء لا يمكن التخلي عنه في الفن، لابد من مزج الخيال بالواقع، لابد من الرمزية، بمعنى أن الفنان لا يوجه أفكاره بشكل مباشر إلى المتلقي، وإنما يترك له حرية التأويل، يترك له حرية أن يتدخل بقصته وحياته وأفكاره في هذا العمل الفني.

هذا التصور للفن يختلف تماما عن من يتصوره بأنه هو الواقع، وبالتالي ستكون عنده مشكلة رئيسية في التمثيل مثلا، لأن التمثيل كذب، هو فعلا كذب إذا حاكمته بهذا المنظور، وأظن أنه حتى بعض من يجيز تجسيد الصحابة هو يقع في نفس الورطة، حين يعد أن (مسلسل عمر) سيجسد شخصية عمر بشكل صحيح وسليم إذا ما تقيد القائمون على العمل بالروايات الصحيحة، إن مجرد انتقاء بعض القصص وترك قصص أخرى هو تدخل في الشخصية، السيناريو الذي تمت كتابته ليس هو الحقيقة، ليس هو ما قاله عمر رضي الله عنه، ولا هو ما عاشه عمر، كاتب السيناريو يدرك ذلك، ويعلم أن هناك خيالا في الفن، لكن الآخر يراه كذبا، هنا المشكلة، وبالتالي سنلاحظ أن من يرفض المسلسل هو يرفض الفكرة بكاملها، فحتى لو لم يجسد عمر رضي الله عنه، فستبقى مشكلة الروايات، وتبقى مشكلة الموسيقى والمرأة، وكل أسئلة الفن التي لم يجب عليها، أو تم منعها جذريا، وبالتالي لن يرضى المانعون إلا بفيلم وثائقي وليس عملا دراميا.

ماذا لو كتب كاتب ما عن عمر رضي الله عنه قصة أدبية للأطفال! سنواجه المشكلة ذاتها، لأنه لن يروي لهم قصصا تاريخية، وإنما سيحوّل القصة إلى مشهد روائي أدبي، سينشئ حوارا، وينشئ خيالا، وبحسب مفهوم المانعين، سنواجه هنا مشكلة ايضا، لأنه لم يرو الحقيقة، ولكن الفنان لم يدع أنه يروي الحقيقة، وإنما هو يقوم بعمل فني، وماذا لو حاول أحدهم أن يقوم بمسرحية غنائية تاريخية مثلا! ستتكرر المشكلة أيضا، تصور الفن بأنه هو الواقع سيجعل الفن دائما في قائمة المرفوض.



1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on July 17, 2012 15:24

July 14, 2012

جدتي خديجة


لوحة الأرملة لرامون كاساس


.


كنت عائدا من عمان، حيث أقيم لأجل الدراسة، حين دخلت بيت والدي، سمعت الخبر المفاجئ، أن جدتي لأمي تعاني من ورم خبيث في المخ، كعادتي لا أستوعب الصدمات من اليوم الأول، دائما ما أسمع الخبر، وأبدو قويا أمام نفسي وأمام الناس، لكني بعد أيام قليلة حين أختلي بنفسي، أجد الأمر مضاعفا.


جدتي لأمي لا أعرفها إلا وهي كبيرة في السن، والواقع أني تفاجأت من صورها التي أراها الآن، وأنا صغير بجانبها، كانت شابة جميلة، لها ابتسامة بريئة جذابة، لكن من عادة أهلنا قديما أن تلبس المرأة (الساري) بعد زواجها، فيتقدم بها العمر عقودا، فتبدو لنا من جيل سابق، لم أرها في حياتي بدون الساري الأبيض، إلا خطأ، أو حين تعيد إصلاحه، بحركة ميكانيكية معهودة، كانت حركاتها بطيئة، مثل الرجل الآلي، لا تنظر يمينا ولا شمالا إلا ببطء، وبحركة متكلفة، عرفت حين كبرت أنها عانت من ورم في الرقبة، وسافرت إلى الهند قبل عشرين سنة تقريبا لاستئصال الورم، كان أثر الجراحة مايزال باديا على رقبتها، حين تعيد إصلاح الساري.


تحب الصمت، وتكره الأحاديث الطويلة، وتفضل العزلة في أوقات كثيرة، تعيش وحدها في بيتها، يأتيها ابناؤها وأحفادها لزيارتها، وربما المبيت عندها، لكنها زيارة محددة ولها أمد، ويبدو أن حب العزلة في عائلتي يحاصرني من كل الجهات، من جهة والدي ووالدتي، وهي عزلة غريبة مقترنة بالسعادة، والعثور على الذات، لا بالكآبة كما يحدث لكثير من الناس.


حياؤها ملفت للنظر، في نظرتها وصمتها، تلبس الساري، و (الجلابية) وتحته السروال الفارسي المزركش، حتى لا يبدو منها شيئ، مع أنني بالكاد كنت أرى طرف هذا السروال، كنا لا نجرؤ على دخول غرفة نومها، تلمؤها الهيبة والاحترام، أذكر بعض الأشياء هناك، بخلاف المسجل والراديو القديم، كانت عندها آلة أشبه بالمجهر الصغير الذي يستخدم لرؤية الشرائح، مثله تماما، قطعة من حديد، تستخدم لتغليف الأزرار الدائرية بقطعة القماش، على يمين الآلة قطعة حديدية تدار حتى تضغط على الأزرار بعد أن تضع قطعة القماش عليها، كنت أحب تلك الآلة كثيرا.


كانت جدتي قريبة منا، لكن ثمة مسافة يجب علينا احترامها، وهي مسافة تتعلق بحيائها، لم تكن تتكشف حتى على بناتها، ومن هنا جاءت الأزمة.


الورم في المخ كبير جدا ويجب استئصاله، وقد يفقدها الحركة، حالتها ليست يسيرة، خصوصا وهي في السبعينيات من عمرها، هذا هو توصيف الأطباء باختصار، أجريت لها علمية استئصال للورم، ولكن بعد العملية حدث ما كنا نخاف منه، أصيبت بالشلل الكامل، كان لا بد من وجود من يقوم على خدمتها، بناتها من حولها، والممرضات في المستشفى.


كانوا كلما أخذوها إلى دورة المياه، أو لتبديل ملابسها، تدمع عينها وتبكي، لم يدرك الكثيرون ما يبكيها، لم تكن تتكشف على أحد، حتى بناتها، وهي الآن مضطرة إلى ذلك، حين يكون أعز ما تفتخر به أمام نفسك عرضة للانتهاك، هذا باختصار ما جرى لها، وهو يحدث في آخر حياتها، كنت أشعر بها تتمزق في داخلها، حين يقلبونها، أو يأخذونها لتغيير ملابسها، أو لنظافتها.


ظهر ورم آخر قريب من المنطقة المسؤولة عن الحواس، ولا فائدة من إزالة الورم، لأنه كبير جدا، ويوما بعد يوم، بدأت تفقد حواسها الخمس، فقدت القدرة على الكلام، ثم النظر والسمع، وكل شيء، كانت نائمة، وهي مستيقظة، كانت جسدا مطروحا، لكنه على قيد الحياة، نكلمها ولا ندري هل تسمعنا أم لا، دخلت في ظلام عميق، تشخر أحيانا، وتبكي في أحيان أخرى، استمرت هكذا ثلاثة أشهر، كنا في شهر رمضان، وكنت أصلي بالناس، ومع اشتداد مرضها، صرت لا أتمالك نفسي في الصلاة، في إحدى الليالي صليت وانفجرت بالبكاء، لا يعلم الناس سبب بكائي، ولا أنا أعلم، ولم تكن تلك عادتي، بعدها توقفت عن الصلاة بهم لبعض الأيام.


كنت أجلس بحانبها وأقرأ القرآن، كنت أريد معجزة تعيدها إلى الحياة، كنت أفكر في كثير مما أقوله وأكتبه، عن الحياة السننية والطبيعة القانونية، وأن القرآن لم ينزل لإحداث هذه المعجزات في الحياة، لكنني كفرت بكل هذا، كنت أريدها أن تعود للحياة بأية طريقة.. بأية معجزة.. فتجري المعجزة على يد من فندها، ولتنتفي الأسباب على يد من دعا لها، وسأعترف بذلك، هذا وعد مني، ولكن أعيدوا لها الحياة.


لم أفهم قصة مريم عليها السلام إلا حينها، تلك المرأة التي (حصنت فرجها)، هكذا وصفها القرآن، فجاء الابتلاء من الجانب الذي تفخر به، جاءها جبريل ونفخ فيها من روحه، تمر الأيام، وحين جاءها المخاض عرَفَت ما يعنيه ذلك، عرَفَت معنى أن يكون لها طفل من دون زواج، قالت ليتني مت قبل هذا، ليتني لم أكن هنا، ولما وضعته، جاءها الأمر الأصعب، أن تحمله بين ذراعيها وتستمع لأشد التهم إيلاما، وتصمت، وتشير إلى الطفل بين يديها، ممنوع عليها أن تدافع عن نفسها.. المرأة التي تعتز بالحياء.. تتلاشى سمعتها أمام عينها..


هذكا فهمت جدتي، كنت أشعر باعتزازها بالدائرة التي أحاطت بها نفسها، بمبالغتها في الحياء واللباس، في الساري والسروال الفارسي، في كل ما يكون أكثر حشمة وعفاف، ثم هي تتقلب بين يدي الأطباء والممرضات، في صمت منها، وعالم من الظلام، لا تستطيع أن تبدي حتى انزعاجها، لا تقدر على أن تقول أبعدوا هذه عني، أو قربوا تلك مني، أو تشتكي من كلمة أبداها فلان، أو تذمر أبدتها الأخرى، كانت تنفجر بالبكاء أحيانا، وتقول ما لا نستطيع سماعه.


في إحدى ليالي رمضان توقف قلبها، ثم أعادوا لها النبض في إنعاش سريع، ومؤلم، الجسد ينتفض، يقفز أمامنا، مرة ومرتين، تمنيت وقتها أن أكتب وصيتي، أن يتركوا قلبي وشأنه، إذا توقف فليذهبوا عني بعيدا، ما فائدة أن أعيش يومين أو ثلاثة أيام إضافية، ما جدوى تمديد الألم؟!


سمعت كثيرا أن للموت رائحة، أن له إحساس حين يدخل الغرفة، ولم أكن ألقي لهذا الكلام بالا، فقد كنت أظنه من تعبير الروائيين، لكني شعرت به تلك اليلة، شممت رائحة الموت، أحسست بالغرفة مكتظة بالأرواح، أحسست بهم في كل مكان، أحسست بالهدوء والحركة، نظرت إليها وهي نائمة، شعرت بالروح تخرج، وشعرت بهم يذهبون، ثم رأيتها جسدا بلا روح، قلت للطبيب أظنها فقدت الحياة، قال لا، مايزال القلب ينبض، توقف القلب وأنعشوه عدة مرات، وعاد للنبض، كنت متأكد أنها فارقت الحياة، وأن قلبها يعمل بشكل آلي، لأنه مل من أجهزتهم، في اليوم التالي توقف القلب تماما، وبناتها حولها، بدأ البكاء، والترحم، وهي تعود لنضارتها، كما كانت قبل مرضها، بعد مرور ساعة تقريبا، عاد كل شيء كما كان، بعد أن خلصوها من أجهزة المستشفى، عاد الوجهة نضرا طريا بشوشا نائما، كأنها ستستيقظ في أي لحظة، كأنها ستجيبني إذا ناديتها، وتبتسم إذا أضحكتها، لم تكن تلك التي بكت ولا تلك التي اشتكت، لعلها أدركت الآن ما لم تدركه في لحظات الظلام، كان ذلك قبل ثمان سنوات، ومن يومها وهي تأتيني في المنام بين الحين والآخر، تحذرني وتبشرني، وتعينني على نفسي

 •  0 comments  •  flag
Published on July 14, 2012 06:58

July 11, 2012

مسلسل الفاروق .. لماذا الجدل؟

يتفاجأ بعضنا بالصراعات التي تنشب فجأة، وبعضنا يتوقع الصراع قبل حدوثه، وبحسب معرفتي فإنه ما من أحد إلا وتخذله التوقعات في بلادنا الجميلة، تستعد قناة إم بي سي بالتعاون مع تلفزيون قطر لإنتاج مسلسل (عمر) رضي الله عنه، وفيه يقوم أحد الممثلين بدور عمر، وآخر بدور أبي بكر، فضلا عن بقية الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، وقد أفتى مجموعة من أهل العلم المعاصرين بجواز ذلك من أبرزهم د.سلمان العودة، ود.يوسف القرضاوي، وبدأت حملة شرسة في الأسبوعين الماضيين على المسلسل، وعلى هذه الفتوى، وهنا دخلنا في حالة من الجدل، والتهييج، والشخصنة، وغير ذلك.


ما يبدو للناس أن خلافا نشب بين أهل العلم، وبعضهم يقول لا، ليس بين أهل العلم، ولكن بين أهل العلم المعتبرين وغيرهم، وهنا عليك أن تبحث عن هؤلاء المعتبرين من داخل السياق، هناك كلام علمي في المسألة، وهناك كلام عاطفي، وهناك كلام فقط، يبدو أن من الناس من يبحث عن قضية يتحدث فيها في مجتمع يفتقد إلى الحديث عن القضايا ذات الشأن الحقيقي.


لنلاحظ بعض الأمور في هذه الحالة، هناك فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تحرم تمثيل دور الصحابة، هذه الفتوى قديمة، وهي في الواقع عدة فتاوى قدمت في أسئلة متفرقة للجنة، وكان الجواب هو التحريم، ونحن نعرف الفيلم المشهور (الرسالة)، الذي أخرجه مصطفى العقاد، والذي لاقى نجاحا كبيرا، وتعرضه قناة إم بي سي بين الحين والآخر، في المناسبات الإسلامية والتاريخية، وفيه تجسيد لبعض الصحابة، لاحظ هنا أن الفتوى تحرم تمثيل دور أي صحابي، ونفس القناة التي تبنت إنتاج مسلسل (عمر) تعرض بشكل متكرر فيلم (الرسالة) الذي يتم فيه تمثيل أدوار بعض الصحابة، لم نشهد حملة لمقاطعة باقة إم بي سي، لأنها تعرض فيلم الرسالة، ولا يشفع هنا أن فيلم (الرسالة) لم يجسد دور الخلفاء الراشدين، لأن فتوى اللجنة تحرم تمثيل أدوار كل الصحابة، ومن يعارض مسلسل عمر إنما يحرم تمثيل جميع الأدوار، السؤال هنا: لماذا حين جاءت الفتوى من بعض أسماء أهل العلم ثارت هذه الضجة؟! إذا كانت القضية غيرة على الصحابة وخوفا على تشويه سمعتهم وسيرتهم، أو التهكم بهم، فلماذا لا يتم مثل ذلك مع أفلام تبث بين الحين والآخر على الفضائيات على مرأى ومسمع منا طيلة السنوات الماضية، ما الفرق الذي حدث حين ظهر اسم العلماء، سواء من خلال فتوى جواز التمثيل، أو من خلال قراءة النص وإبداء الملاحظات، أو إجازته، أو مجرد الثناء عليه، ولماذا كلما اقترن اسم أحد هؤلاء العلماء بمشروع ما، وجدنا حملة شرسة وتشويها متعمدا للمشروع، حتى يصبح الجدال والحوار داخل الدائرة الإسلامية، والناس لا تدري لماذا كل هذه الضجة، لكنهم مع الوقت يصبحون جزءا من هذا الجدل، وتجيء ساعة الاصطفاف.

يظهر هذا الصراع الحاد في الزعم مثلا أن ثمة إجماعا على التحريم، ونحن نعرف أن المسألة من القضايا المعاصرة، ونعرف مدى صعوبة إثبات الإجماع في العصر الحديث، بل استحالته، لذلك انتبه بعضهم وصار يقول هناك إجماع من العلماء المعتبرين، وعبارة (المعتبرين) هنا هي في الواقع توصيف لمن هم معنا ومن هم ضدنا. لا بد أن نلاحظ أيضا أنه لا يوجد دليل قطعي على تحريم تجسيد (تمثيل) الصحابة، المسألة طارئة، وجديدة، هذه المسألة مما يسميها أهل العلم من (المسكوت عنه)، ولا توجد مصلحة واضحة ولا مفسدة واضحة في الموضوع، المصلحة في نشر سيرهم وتثبيت الذاكرة التاريخية، وبعث الحياة في تراثنا.. إلخ، والمفسدة في خشية تشويه صورة الصحابة، أو الاستهزاء بهم� إلخ وهناك من يعترض على أن يقوم (فنان) ما بهذا الدور الشريف، أي كيف أقبل أن يكون فلان من الفنانين الذي نراه ونشاهده في أدوار أخرى، يقوم بدور الفاروق، وماذا إذا رسخت صورة هذا الفنان في ذاكرة الجيل الجديد، كما رسخت صورة أنطوني كوين مثلا في ذاكرتنا في شخصية عمر المختار، من الواضح أن القضية فيها أخذ ورد ومجال للنقاش، لا يوجد حسم في المسألة، بل بعض الأمور المذكورة تعد من الأمور الذوقية، مثل عدم تقبل تمثيل ذلك الفنان لدور الصحابة، هنا نقاش جميل وبريء، ولكن المدهش، بل المزعج � حتى أكون أكثر وضوحا � تلك اللغة اليقينية الصارمة في التحريم، وتجاوز الحد إلى التأثيم، الواقع أننا نقتتل في كلامنا، ونمزق بعضنا في حواراتنا، حين نكون صارمين وجازمين إلى هذا الحد.. وللحديث بقية.



 •  0 comments  •  flag
Published on July 11, 2012 06:52

July 4, 2012

ورطة مفهوم « الدولة »

الحملة التي شنّتها أوروبا على الدين الكنسي المسيحي لم تكن سهلة، استطاعت الحداثة الغربية أن توجه ضربات للفكر الكنسي جعله غير قادر على النهوض مرة أخرى. كان «المقدس» على رأس القائمة التي يجب قصمها، وأصبح وجود المقدس في المنظومة الفكرية أمر لا يقبله العصر الحديث. أصبح الفكر الغربي الحديث خاليا من المقدس الديني. هذه هي النتيجة التي يفتخر بها كثير من المفكرين،


لكن لننظر للأمر من زاوية مختلفة.. لو أخذنا فرنسا كمثال لدولة علمانية، يصفها العلمانيون بأنها الأكثر تشددا في علمانيتها، لنتأمل في حالة الاحتفال بالثورة الفرنسية. لقد شهدنا عدة ثورات العام الماضي، وصرنا نعلم جيدا بأن الثورة هي فعل بشري غير مقدس، فيه الصواب وفيه الخطأ، وهو فعل تاريخي، بمعنى أنه مناسب لظروف تاريخية معينة، لذلك تختلف الثورات في طبيعتها من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان أيضا، هذه الحالة البشرية حين يتم الاحتفال بها، تصبح حالة يهاب الناس نقدها، حينها تنتقل من خانة (الفعل البشري)، إلى خانة (المقدسات)، أليس الاحتفال السنوي يضفي هذا المعنى على الثورة الفرنسية؟! في متحف الشمع توجد زاوية لضحايا الثورة .. هل تشعر بهذا التخليد؟! وتوجد كذلك منحوتات من الشمع لشخصيات مؤثرة تاريخيا. لا شك في أن الشخصيات التي يحترمها الغرب ستزيد احتراما و(قداسة) بهذه التماثيل .. مثل الملكة إليزابيث .. والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران.


لقد خرجت القداسة من الدين ودخلت للفكر البشري المحض.. هذا ما أريد قوله .. ومن أكبر ورطات الحداثة الغربية أنها أدخلت القداسة إلى مفهوم (الدولة) نفسها. كانت بداية الفكرة أن الإنسان احتاج إلى وجود الدولة حتى ينظم أمور معاشه، كي تنضبط العلاقات، ويعيش الناس رغم اختلافهم، ومع الوقت أدرك الإنسان أن التقدم والحضارة مرتبطان بوجود الدولة، لا يمكن لقرية أن تبني سوقا عالمية مثلا، ولا يمكن لمدينة صغيرة أن تسابق الأمم حضاريا، من هنا أخذت الدولة حيزا مهما وكبيرا في العصر الحديث، لكن هذا المفهوم حمل القداسة في ذاته، فالدولة التي تمضي بنا نحو التطور، ستكتسب شرعية لأفعالها.

سأحاول تبسيط الفكرة أكثر، الدولة تمضي نحو التنمية، والتنمية تستهدف الصالح العام، وكل ما يعترض مسيرة التنمية يجب تأجيله، وكل ما يهمني أنا شخصيا (الفرد) لا يجب أن يشغل الدولة عن مسيرتها، وبالتالي أصبح وجود الدولة مقصودا لذاته، مرادا لذاته، وهي الأساس وليس نحن، وبالتالي تم إضفاء القداسة على (الدولة) بشكل يساوي فيه القداسة التي كانت تتمتع بها الكنيسة.

إن السعي نحو الكمال انتهاك للإنسانية، هكذا قال إلبير كامو الفيلسوف الفرنسي، بمعنى أن فكرة وجود الدولة التي تسعى للحضارة والتنمية في كمالها، ستجعلها قاسية نحو أبنائها، لذلك لن ترحم أخطاءهم، لأنها لا وقت لديها لمعالجة أخطائي أنا الفرد، لن تتسامح أبدا مع من يشوه سمعتها في الخارج، ولن تتهاون مع من يعرقل مسيرتها، بسبب طلباته التافهة في نظرها، لأنها تسابق الزمن من أجل الوصول للكمال.

من يولد في عائلة لها بريقها وسمعتها وتاريخها المجيد، سيجد نفسه مضطرا لأن يكون شيئا لا يريده، أن ينخرط في بروتوكولات وقواعد وضوابط، لأنه لن يُسمح له بتعطيل مسيرة العائلة ولا بتدنيس تاريخها، هنا سيكون إنسانا آخر، فرضته عليه ظروف السعي نحو الكمال أو ربما الخلود. أما العائلة البسيطة، التي تعيش وضعها الحالي، التي لا تنظر كثيرا إلى جذورها، ولا إلى مستقبلها، ستكون مهمتها أن يعيش الفرد فيها كما يريد، ستحتمل حماقاته، وتتجاوز عن أخطائه، وتقبل اختلافه، لأن الفرد هنا هو الأساس، في الحالة الأولى تقدست العائلة وتلاشى الفرد، وفي الحالة الثانية تموضعت العائلة تاريخيا وبرز الفرد.

أليس من العجيب أن يكون عدد من تنتهك الدولة حرياتهم بالسجن من أجل بقائها، أو تسلب مستقبلهم من أجل وجودها، أكثر بكثير ممن سلبت حريتهم وحياتهم من قبل أعدائهم؟! لم يمت إنسان من الجوع لأن سارقا دخل بيته وأخذ ماله، لكن أطفالا يموتون جوعا في العالم بسبب فساد الدول؟! أليست هذه مفارقة عجيبة في مفهوم الدولة التي تسعى للتطور والكمال؟! التطور حاجة ملحة، لا اعتراض على هذه الفكرة، لكن أن تكتسب الدولة قداسة من أجل ذلك، فهذا ما أبدعه العصر الحديث، ولا يجوز أن يكون السعي نحو التنمية ذريعة لانتهاك أحلام الفرد، ليس للتطور نهاية، فإن كان الفرد مشروعا مؤجلا اليوم، فإنه سيبقى كذلك.



 •  0 comments  •  flag
Published on July 04, 2012 06:50

مصطفى الحسن's Blog

مصطفى الحسن
مصطفى الحسن isn't a ŷ Author (yet), but they do have a blog, so here are some recent posts imported from their feed.
Follow مصطفى الحسن's blog with rss.