ربما لا يقتل المرء أكثر من علاقة تستنزفه، ولا يستطيع الفكاك منها.
ولأجل ذلك غنى منير "ضاع الونس ياقمر غايب.. بعدك ماليش أي حبايب"، وربما ذلك هو لسان حربما لا يقتل المرء أكثر من علاقة تستنزفه، ولا يستطيع الفكاك منها.
ولأجل ذلك غنى منير "ضاع الونس ياقمر غايب.. بعدك ماليش أي حبايب"، وربما ذلك هو لسان حال ماريو، بطل رواية "في غياب بلانكا"، لو كان يتقن العربية لغناها طوال الوقت.
تتأسس حياة ماريو من العنوان، ومن الجملة الافتتاحية: أتت المرأة التي لم تكن بلانكا.. رجل مأسور في عالم بلانكا، فهي كل النساء بالنسبة له، وكل النساء لا يمكن أن يكن بلانكا في المقابل. لم يدر ماريو بنفسه وهو ينجر إلى الفخ المسمى الحب، ولم يفهم أبدا أن هذه العلاقة شديدة السمية تدمر حياته بالبطيء، كل ماحدث أنه تعرف إلى بلانكا في ليلة كانت مخمورة فيها بسبب حزنها على فقدان حبيبها السابق، يصطحبها إلى شقتها، ثم يمارس هوايته في رعاية الاشخاص والمكان من حوله، حتى يتحول مع الوقت إلى رجل لا يمكنه تعريف نفسه خارج علاقته ببلانكا، فقد "اعتاد أن يعيش لأجلها"، وصارت كل أفعاله وأفكارة مجردة من الأشياء إلا خوف فقدانها، حتى أنه في لحظات حزنها وانعزالها كان "يطرق الباب بهدوء شاعرا بالذنب والخجل والخوف من فقدانها".
لم تقدر بلانكا كل مجهودات ماريو، كشكل من أشكال الأنانية الذاتية، أو رجوعا لنشأتها الطبقية التي أشعرتها أن الكون كله يدور في فلكها. كانت تدعي أنها فنانة، وتتبع أخبار الرسامين والأوبراليين، باعتباره العالم الذي تود الانتماء إليه ولا تسطيع، إلا بقدر تواجدها على هامش حياة الفنانين الذين يستغلونها. لم تر بلانكا من الحياة سوى رغبتها في أن "تُرى" كفنانة، والأسوأ أنها لم تر نفسها بعيني ماريو.
الأكيد أن ماريو لم يفهم بلانكا، غلبه الافتتان بها، بالصورة التي ثبتها في خياله، حتى لو تحرج أكثر من مرة أن يتذكرها، وهي تخىج عارية من الحمام وشط سحابة بخار، تشبه إلهة إغريقية، أو حلما فردوسي لم يكن لقروي ساذج مثله أن يصله يوما ما. ربما سذاجة القروي تلك هي ما جعلته مسخة علاقته ببلانكا، فهو موظف إداري في الثلاثينات من عمره، لا يفهم الفن بالشكل اللائق بمثقف أو برجوازي، بل إن ملامح فريدا كالو توتره، ورسوماتها تصيبه بحالة من غثيان مفاجيء، ولم يتقن فعل شيء في الحياة سوى عيشها بروتينية متواصلة والتعامل مع حبه بمنطق الوظيفة: سيكون مخلصا أشد الإخلاص وسيراكم الخبرات والمواقف حتى لا يكرر أخطاءه أبدا.
لم يشفع تفاني ماريو له أن يحتفظ بحبه، كعادة كل العلاقات في زمن الاختيارات المهولة، يصيبها التهديد من أقل مشكلة، ويضربها تقلب مزاج الطرفين يوميا في مقتل، هكذا يستدر توهان ماريو المأساة في ماضينا، حيث البكاء على أول قصة حب فاشلة، وتساؤل المراهقة المرير عن كوننا محبوبون أم لا، ثم تساؤلات الشباب والنضج عن جدوى العلاقات واستمراريتها، كأن الخوف من الفراق هو مرض اشد فتكا من السرطان، وكما يلخص ماريو الازمة التي تواجهه في علاقته كل صباح "لماذا يتخيل أن البقاء مع بلانكا هو الوسيلة الوحيدة الممكنة، ليس للسعادة، بل لمجرد السكينة، إذا كان الواقع يجد نفسه بقربها في حال دائم من فقدان الأمان والكرب والندم؟"؛ كشخص مقتول يحاول أن يتظاهر بأنه حي، لكن هيهات....more
رواية خفيفة. أحببت كثيرا من حكاياتها. كان ممكن اختزال كثيرا من أجزائها، خصوصا جزء لندن بين صادق وضياء. كما أنني لم أفهم المبرر الفني لتغير صوت السارد رواية خفيفة. أحببت كثيرا من حكاياتها. كان ممكن اختزال كثيرا من أجزائها، خصوصا جزء لندن بين صادق وضياء. كما أنني لم أفهم المبرر الفني لتغير صوت السارد بين الفصول. في المجمل رواية جيدة جدا، وفتحت لي أفقا على البحرين وعوالمها....more
عدى العمر ولا لمحته، لكن عبد الرحمن مصطفى استطاع أن يلمحه.
من زمن لم يستفزني كتاب بهذا الشكل، لا لشيء إلا لفكرة شديدة العادية وهي الكتابة المستمرة يومعدى العمر ولا لمحته، لكن عبد الرحمن مصطفى استطاع أن يلمحه.
من زمن لم يستفزني كتاب بهذا الشكل، لا لشيء إلا لفكرة شديدة العادية وهي الكتابة المستمرة يوم عيد الميلاد. ربما لو قرأت الكتاب في عمر أصغر لم يكن ليستوقفني كما حدث، وربما لأنه صادفني في أواخر العشرينات، وأنا أعاني مع أصدقائي من متلازمة "الخوف من انتهاء العمر" كما أحب أن سميها. ينتابنا خوف دائم من الاقتراب من أعمار آبائنا، مراقبة السنوات وهي تفر في الخيط، وترقب الصلع الوراثي وانحناءة الظهر وخفةت الرغبة في الحركة والنشاط.
يأتي عبد الرحمن مصطفى- ولم يسبق لي القراءة له من قبل- ليحاصر تلك المخاوف بتدويناته المستدامة طيلة عشرين سنة تقريبا، من منتصف العشرينات وحتى مجاوزة الأربعينات، مع تغول إلى الأسئلة اليومية العادية، والمقلقة، عن الارتباط والعلاقات بالأهل والاستقلال المادي وغيرها. قسم عبد الرحمن كتابه بفصول، يشير كل فصل إلى عبد ميلاد جديد، مع السنوات العادية مثل ٢٠٠٩ و٢٠١٦، أو مع السنوات الفارقة مثل ٢٠١١، و ٢٠١٣، و٢٠٢٠.. عين أخرى على الأحداث، ترى من منظور الصحفي الذي عايش الواقع الذي عشناه كلنا، لكنه يراه بعينين، واحدة كمنتج للأخبار، وأخرى كمستهلك لها. النقطة الوحيدة التي لم أستسغها هو طريقة تعاطيه مع مذبحة رابعة.
من هنا جاء الاستفزاز في إعادة التفكير في يومياتي الشخصية، حول تلك الأحداث الفارقة، والقاتلة، لنا جميعا، وهل يمكن الاعتماد على تلك اليوميات المدججة بقصص المخاوف ومحاولات النجاة وقصص الحب الفاشلة، في إنتاج مشروع كتابي مثل هذا!! جميل ومحفز هذا الكولاج الذي قدمه عبد الرحمن مصطفى، وربما هكذا هي الحياة، عودة دائمة لآخر الحارة التي انطلقت منها....more
حقيقة أنا "غيران" من هذه الرواية، وكنت أتمنى لو أكون كاتبها. غيران من البناء، والسهولة في السرد، والطبقات التي تتكشف خلف بعضها، والقدرة على تتبع حيواتحقيقة أنا "غيران" من هذه الرواية، وكنت أتمنى لو أكون كاتبها. غيران من البناء، والسهولة في السرد، والطبقات التي تتكشف خلف بعضها، والقدرة على تتبع حيوات المكان في صفحات قليلة.
في صغري، مات ابن عم ماما. كان شابا طيبا، ومحبوبا من الجميع، ولم يتوقع أحد أن يرحل بسرعة، لكن صدمته سيارة مسرعة وهو يعبر الطريق في السعودية. وصل الخبر في صغري، مات ابن عم ماما. كان شابا طيبا، ومحبوبا من الجميع، ولم يتوقع أحد أن يرحل بسرعة، لكن صدمته سيارة مسرعة وهو يعبر الطريق في السعودية. وصل الخبر إلينا قبل جثمانه بأسبوع أو أكثر، يومها استيقظت من النوم، على صوت حشرجة، فتحت عيني وراقبت ماما من فرجة باب غرفتي، كانت واقفة في منتصف الصالة وتنهنه بدموع غزيرة. ظللت متسمرا في رقدتي حتى فرغت من بكائها، لا أعرف لم ثقبتني قشعريرة أن ماما ترثيني أنا، بينما أتطلع إليها من البرزخ بعد موتي.
قمت بسرعة وسألتها عما حدث، فأجابتني: خالك فوزي مات.
ظللت بعدها لفترة طويلة، ربما قرابة ثلاث سنوات أو أكثر، يراودني في المنام حلم أن ماما ترثيني في وسط الصالة، وأنا نائم وسط كفن شفاف ولا أستطيع الاعتراض على ما يحدث. ثم تلبستني حالة أخرى في صحوى، أن أتخيل فقد واحد مننا، ثم أنهمك في عقد سيناريوهات كثيرة للحياة من بعده، حتى أجدني في النهاية أذرف بعض الدموع، أو أعيش ليومين في حزن يشبه حزن الحداد. اليوم وبعد مرور خمسة عشر عاما على لعبة الحداد تلك، اكتشفت وأنا أقرأ كتاب "عن الأسى" أن ما كنت أفعله يدعى بـ"الأسى الاستباقي"، وهي حيلة يمارسها العقل بشكل لا واعي للهرب من ثقل الحزن الحاضر، وربما ليدرب نفسه على الفقد المستقبلي، لا ليهزمه، وإنما بالكاد ليقدر على مواجهته.
أحيانا عندما أفكر في حياتي، وأنا في نهايات العقد الثالث، أشعر أنه يمكن تأريخها بسلسلة متواصلة من الفقد، الذاتي والجماعي معا. فكل خسارة هي فقد بالضرورة، حتى لو لم تصل إلى هول الفقد الذي يحدثه الموت. قرأت على فترة طويلة، بسبب تأثيره الضاغط، خصوصا بعد معرفتي بكواليس ترجمته، عندما تابعت بعض الفصول التي كان ينشرها شادي عبد العزيز، بعد رحيل الكاتب محمد أبو الغيط، أحد خسارات الثورة المصرية، وهذا الجيل ككل.
في الكتاب تقدم إليزابيث كوبلر وشريكها ديفيد كيسلر مانيفستو أو وثيقة للتعامل مع قرارة الفقد وقسوته، واللحظة القاتمة والممتدة لتوقف الحياة بعده. إليزابيث كوبلر معروفة بمخططها لمراحل الحزن بعد الفقد، وهي: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، التجاوز، وقد باتت مراحلا معروفة ومطروقة للتعامل مع اي فقد كان، سواء موت الأحباب، أو الانفصال عن الحبيب، او حتى فقد الوظيفة. لكنها في هذا الكتاب، تقدم مع شريكها، مفهوما أوسع للتعامل مع الفقد، لا رغبة في "الطبطبة" على مرضاهاما النفسيين، أو قراءهما المحتملين، وإنما لإقرار حقيقة ثابتة وصادمة: ما دمت حيا ستتعرض للفقد.
ينطلق الكتاب من نقاط فقد شخصية للكاتبين، ممتدة من الطفولة، وربما تبدو شديدة التفاهة مقارنة بما نتعرض له يوميا، فتحكي كوبلر عن بكائها -وهي امرأة عجوز- على أرنبها الذي طبخته العائلة وهي في سن السادسة، وكانت تعتبره صديقها، ومنحته من قلبها محبة لا يسعها الكون. أما كيسلر فيحكي عن الإعصار الذي دمر حيهم بالكامل في صغره، وفقد ببغاءه الملون جراء ذلك. ظل صامتا لمدة طويلة، ولم يتذكر حادثة فقد الببغاء حتى ماتت أمه، فوجد نفسه ينفجر في البكاء متذكرا الببغاء واللحظات التي قضاها في تعليمه اللعب والحركات. هكذا كل فقد، لا نعبره كلية، أو نحذفه على طريقة حذف الملفات "delete"، وإنما يتوارى في منطقة ملغمة، ينتظر أقل استثارة ليفجر صماما من الحزن والألم، وعندها لا نملك أي حيلة سوى التأسي في مواجهة هذا الأسى.
في المعاجم العربية يأتي الأسى بمعنى الحزن الشديد، أما التأسي فهو المواساة والعزاء، وإذا قيل عن شخص ما أنه يتأسى أي يصبر ويتعزى. في حالة البحث عن التعزية تلك، تصبح لدى الإنسان رغبة عارمة في الحصول على الطمأنينة، وربما هذا ما طمح له المؤلفان، كما يعبران في الفصول الخاصة بهما عن أساهما الشخصي، وأنهما أرادا إتاحة الفرصة للمشاعر العادية من الحزن والاكتئاب أن تأخذ صيرورتها، ثم يتوفر الوقت الكافي لتلعم التعايش مع الفقد، وتكريم الماضي وتذكره كتجربة حياتية مكتملة، وليس كمأساة إغريقية تستوجب اللطميات وجلد الذات.
مع كل فقد حياتي تندفع الشكوك مع الأحزان، والأسئلة المقلقة حول جدوى الحياة، وكفاءة الشخص أصلا لعيشها، وربما يكون الأقسى هو الشعور بأن الحزن دائرة مغلقة لن تنتهي أبدا. في الكتاب تورد مئات القصص، عن اشخاص فقدوا أحبائهم، بطريقة عادية، أو بأخرى شديدة المأساوية، مئات المشاعر المكثفة والتي تستدعي في ذهنك طبقات من الفقد الذاتي. لكن كل أولئك الفاقدين استطاعوا بطريقة ما أن يتصالحوا مع ما حدث، بطرق مختلفة، فلكل شخص طريقته في معايشة مأساته، لكنهم في النهاية أخلصوا في محبتو من فقدوهم، بعدما أيقنوا أن الفقد هو الشيء الطبيعي، بل والثابت الوحيد في هذه الحياة....more